المحتوى الرئيسى

الدولة العثمانية والطربوش

إن مسألة غطاء الرأس لم تكن يوماً في العصور الوسطى وحتى منتصف القرن العشرين ويزيد؛ مقتصرةً فقط على النساء بل كانت تضم الرجال أيضاً؛ فمن العمامة بجميع أشكالها ومسمياتها وما ترمز إليه من مستوى طبقي معين إلى الطربوش رحلة طويلة؛ سنختصرها في هذا النص.

كلنا نعرف أن النبي محمد كان يعتمر العمامة فوق رأسه، وأن هناك متحفاً في العالم الإسلامي يحتفظ بها؛ محافظاً عليها من آثار الزمن، حتى يراها العالم في كل زمان.. هذا المتحف يوجد في إستانبول في تركيا واسمه بالعربية متحف الباب العالي أو «طوپ قپو أو طوپ قاپي سراي».

الصورة من موقع حوف.نت

الصورة من موقع حوف.نت

وما كان يرتديه الرسول كان يرتديه آل بيته وصحابته وأتباعه وخلفاؤه، حتى نأتي لوالي مصر ومؤسس دولتها الحديثة محمد علي باشا، الذي كان يعتمر عمامة كبيرة كالتي كان يرتديها الأعيان في مصر.

الصورة من موقع جريدة الفجر

الصورة من موقع جريدة الفجر

لكن عندما وصل للوالي خبر أن السلطان العثماني بدأ في ارتداء ما يعرف بالطربوش؛ واختار طربوشاً غريب الشكل نوعاً ما؛ ليجعله مميزاً؛ فقد كان يشبه طربوش مشايخ الأعراب المنتشرين على خط المغرب ليبيا صعيد مصر، لكنه يختلف عنهم في كونه أثقل وزناً وأكبر حجماً دون أن تكون له تلك الشرابة السوداء المعروفة أيضاً باسم «الخوصة».

الصورة من موقع فاروق مصر

الصورة من موقع فاروق مصر

الطربوش كلمة من أصل فارسي «سر پوش»، وهي كلمة مكونة من مقطعين هما سر أي رأس، وپوش أي غطاء؛ فتصير غطاء الرأس، وقد وجد أول ما وجد في المغرب العربي وانتقل منها إلى الدولة العثمانية ومن تحت جناحها تسرب للولاة في كل بلد؛ كما ذكرنا في قصة الوالي محمد علي باشا.

الطربوش له شكل هندسي معروف وهذا يشكل عملية صنعه؛ لأن الشكل الهندسي المعروف يمكن عمل قالب/ أسطمبة معروفة له لا تتغير؛ فالطربوش على شكل المخروط الناقص، ويمكنك النظر لهذه الصورة لتعرف ما هو المقصود بالأسطمبة.

الصورة من موقع ويكيبديا

الصورة من موقع ويكيبديا

لا نعرف سبباً محدداً لكون الطربوش محصوراً في اللون الأحمر، لكن وبالنظر لمكان النشأة والبيئة، يمكننا الاستنتاج بأن هذا اللون كان لائقاً على الزي المغربي التقليدي أبيض اللون، حتى إنني لاحظت أنه في الأفراح المغربية الآن إذا ارتدى العريس بزة أفرنجية؛ غالباً ما تكون بيضاء أيضاً، كما أن اللون الأحمر لا يمتص حرارة كبيرة في بيئة صحراوية على عكس الألوان الغامقة، وما قد يؤكد هذا الاستنتاج -وأقول قد- أن اللون الأحمر الفاتح هو لون طرابيش الشباب وهم كثيرو الحركة والفعل، أما الأحمر الغامق فقد استقر على كبارِ السن، الذين تكون حركتهم أقل وجلوسهم في ظل الخوص وجريد النخل هو الغالب. وأخيراً يلاحظ أن العمارة في المغرب العربي ساخنة الألوان ومبهجة، وكذلك الحال مع اللون الأحمر: ساخن ومبهج، والعمارة والألوان ما هي إلا انعكاس لما في داخل الناس الذين يبدعونها.

يصنع الطربوش إما من الصوف المضغوط المسمى باللباد ويمكن ملاحظة ذلك في الطربوش المغربي تحديداً، الذي يشبه الطواقي أكثر من المخروط الناقص ويكون له شرابة سوداء طويلة، أو يصنع من الجوخ الذي يتم تلبيسه لقاعدة شكلها كما قلنا من المخروط الناقص وتكون مصنوعة من القش أو الخوص؛ لعزل الرطوبة عن الرأس.

ويختلف شكل وتصميم وحجم الطربوش من بلد إلى آخر؛ ففي المغرب كما ذكرنا يكون قصيراً نوعاً ما، وفي بلاد الشام -سوريا ولبنان وفلسطين والأردن- كان طويلاً بشكل واضح وأشد احمراراً من تركيا ومصر، التي كان يتميز الطربوش فيها بحجم معقول وشرابة طولها مناسب لهذا الحجم، الجدير بالذكر أن مقاسات قالب/ إسطمبة الطربوش تتراوح من مقاس 25 إلى 75 سنتيمتراً على حسب مقاس حجم الرأس.

وللطربوش أيضاً طريقة مخصوصة في التنظيف يقوم بها شخص مخصوص اسمه كوى، يكون دوره تنظيف الطربوش وكيه، أما إذا قدم الطربوش وغالباً ما يظهر ذلك من انثناء أو تآكل أطرافه من أسفل؛ يتم قص الجزء التالف بحيث لا يقل عن 2 سنتيمتر، وتلف خيوط الجوخ على القاعدة القش أو الخوص بشكل محكم وتسمى هذه الإضافة باسم السركي.

وكان الطربوش ملازماً للرجل حتى مماته؛ فيوضع على نعشه المحمول على الأكتاف وهو ذاهب لمثواه الأخير، وطبعاً لو نظرت لعمامة مشايخ الطائفة السنية ستجدها في الغالب مكونة من طربوش مغربي أو شامي ملفوف عليه قماشة تسمى باللاثة البيضاء.

لا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى أن الوالي محمد علي باشا قد أنشأ في مصر مصنعاً للطرابيش؛ حتى لا يستورده المصريون من الخارج، لكن هذا المصنع تم تفكيكه بموجب اتفاقية 1840 المعروفة بمعاهدة لندن بين الدولة العثمانية و3 دول أوربية الإمبراطورية الروسية وبروسيا والمملكة المتحدة والإمبراطورية النمساوية للحد من توسعات محمد علي باشا حاكم مصر على حساب أراضي الدولة العثمانية.

وهناك حكايتان في هذا الصدد أيضاً من المهم معرفتهما الأولى عندما انتشرت القبعة/ البرنيطة الأفرنجية في مصر؛ دارت معركة شعبية صحفية دينية نخبوية بين المحافظين أتباع الدولة العثمانية وبين أبناء التيار المدني الحداثوي، وأصدر الأزهر الشريف فتوى تحرم لبس البرنيطة وخلع الطربوش واعتبره جزءاً من الزي الإسلامي والهوية الإسلامية.

أما الحكاية الثانية فهي حكاية مصطفى كمال أتاتورك والسفير المصري عبد الملك حمزة؛ ففي عام 1925 أصدر أتاتورك قانون القبعة، الذي منع فيه ارتداء أي غطاء رأس سوى القبعة/ البرنيطة، وكان ذلك بعد عام من إلغائه الخلافة الإسلامية، وعامين من معاهدة لوزان 1923 التي أسقطت فيها تركيا إدعاءها بحقها في حكم مصر والسودان وصار فؤاد الأول ملك مصر والسودان، وأرسل سفيراً لتركيا هو عبد الملك حمزة عام 1930، الذي أصر على أن يخلع السفير المصري طربوشه في عشاء الاحتفال بالعيد الوطني عام 1932؛ مما دفع السفير إلى أن يغضب بشدة تاركاً الحفل، لكن تدارك أتاتورك الأمر واعتذر لحمزة بك، الذي قبل الاعتذار دون الرجوع لوزير خارجيته؛ الذي زرجن في البداية، لكن الأمر انتهى، وتقابل الرجلان من جديد في حفل الهلال الأحمر التركي عام 1933، وكان حمزة بك بلا طربوش؛ فدار بينهما هذا الحوار:

– أتاتورك: لماذا لاتلبس الطربوش

حمزه بك: مندهشاً..

– أتاتورك: لماذا كتبت عني تقريراً إلى حكومتك؟

حمزه بك: …….

– أتاتورك: ارتدي الطربوش فأنت مصرى، وإذا لم ترتد الطربوش في حفل 29 أكتوبر القادم؛ فإنني أنا الذي سأكتب عنك تقريراً وأرسله إلى حكومتك.. وضحك الرجلان.

بعد 23 يوليو 1952 منع الرئيس جمال عبد الناصر ارتداء الطربوش في المصالح الحكومية، وعليه بدأ الطربوش في الانزواء من مصر، ومن ثم باقي الدول العربية، وتخلص الرجال في هذه البلاد من غطاء الرأس للأبد تقريباً.



لا تنسى تقييم الموضوع

القسم : غرائب وطرائف

المصدر : ßÓÑÉ

قد يعجبك أيضاً

اضف تعليق

فكرة الموقع : "كله لك" هو شراكة بيننا و بينكم ..دورنا : انتقاء أفضل الموضوعات المنشورة و المتداولة علي المواقع ... دوركم : تقييم المحتوي للتأكيد علي أهميته أو إرشادنا لحذفه

لمعرفة المزيد عن الموقع اضغط هنا