المحتوى الرئيسى

ألوان وملامح من مدينة برلين عاصمة ألمانيا

كنت أنزل من البيت الذي أقيم به في برلين أحياناً، لأجد عند المدخل هذا المشهد:

جيراني، الذين خمنت أنهم أتراك، أو أكراد، أو عرب، من موسيقى أم كلثوم التي أسمعها أحياناً أثناء دخولي أو خروجي من الشقة، كانوا راكبين في زفة شرقية كما أعرفها؛ عربات كثيرة وراء بعضها، وبعض من “الكلاكسات” الخجولة بدافع المكان، نسوة مبتهجات ورجال مبتهجون، ولكن زاد على كل هذا شيء واحد؛ أعلام ألمانيا ترفرف فوق كل عربة، حتى وضعت أعلام صغيرة في مقدّمة السيارات مثل هذه التي نجدها في سيارات الدبلوماسيين.

بدا لي أن هؤلاء الشرقيين يصرخون: نحن ألمان! نحن ألمان نقول لكم!

بالطبع هو حقهم، أقول ليوفيتا، بينما أنا أتمشى معها في شارع الفريدريش شتراسه، بالقرب من بوابة البراندربورج التاريخية، تقول لي أن الولع باستخدام العلم الألماني بدأ منذ أيام كأس العالم 2006 التي استضافتها ألمانيا وخسرت في نصف النهائي أمام إيطاليا، والتي فازت في النهاية باللقب.

لقد أحس الألمان -أخيراً- بأنه من حقهم الافتخار بكونهم ألماناً، هكذا كانت ألمانيا بلداً مثالياً للمهاجرين، لأن أغلب أهلها يشعرون بالذنب لما اقترفه أجدادهم في العالم، ولكن هذا الشعور يبدأ في التغير الآن.

أقرأ في الصحف عن مظاهرات العنصريين الجدد في ألمانيا ولا أحس بشيء في برلين، برلين التي تسمى منطقة كرويتزبيرج فيها ”أسطنبول الصغيرة”، ولا تحدثني عن نويكولن، أو الزونن شتراسه، الذي إن مشيت فيه فستجد اللوحات العربية أكثر بما لا يقاس من أي لوحات أخرى.

سأتكلم لاحقاً عن بهجة المشي في برلين، ولكننا، أنا ويوفيتا، بينما كنا نتوقف لنشرب القهوة في نهار مشمس، جالسين فوق كراسٍ وضعت خارج الكافيه، توقفت سيدة عجوز بالقرب منا، بالقرب من يوفيتا تحديداً، ثم طفقت تتكلم معها بالألمانية بصوت مهتز، رمقت السيدة ببطء، كانت ترتدي ملابس عتيقة، عتيقة عمراً وعتيقة طرازاً، تنتعل حذاءً بسيطاً، وبدا وكأن لونها الأبيض الشاحب، وشعرها الفضي، وعينيها الزرقاوين يمنحون صك بركة للألوان الشاحبة المتعددة التي اتشحت بها ملابسها.

لم أفهم ما تقول، ولكنني انتبهت أن يوفيتا تجيبها بطريقة من يريد صرف أحدهم، تومئ برأسها ثم تنظر لي بعينيها الخضراوين الواسعتين ثم تعود لتقول شيئاً مقتضباً بأدب.

وكلما بدت السيدة وكأنها تتحرك مبتعدة، تتوقف، لتقول شيئاً آخر لا أعرفه. كنت قد تخيلت أنها تطلب إحساناً، ولكن طول المحادثة وجدّيتها الشديدة جعلتني أغيّر رأيي، وزودتني بفضول لا دواء له.

وعندما مضت السيدة أخيراً، سألت يوفيتا: “ما كل هذا! ما الذي تقوله هذه السيدة؟!”.

قالت لي بتلقائية إن السيدة كانت تشتكي، نحن لم نعد ننجب -الألمان- لقد أتى كل المهاجرين إلى وطننا، نحن سنكون أقلية في بلادنا، نحن لم نعد ننجب وهؤلاء ينجبون كالأرانب، أين هي أيام زمان؟! كلنا أصبحنا كسالى ونعيش على الضمان الاجتماعي والآخرون يعملون.

كانت يوفيتا تتكلم بتلقائية وأنا أسمع، ربما رأت في عيني شيئاً لأنها في النهاية أمسكت بيدي وقالت: “لا تهتم”.

بالطبع لم أكن مهتماً، لأنني حضرت معها خناقة في الليل البهيم، في محطة وارشاور شتراسه، حين طلبت من شاب له ملامح شرق أوسطية أن يغلق باب المترو، ثم تطوّر الموضوع إلى نزاع بيني وبين الشاب بلغتنا الأم: لقد تخيل الشاب أن الشقراء الجميلة تحقر من شأنه لأنه عربي، وكنت أنا أحاول أن أشرح له عبثاً أنها قد طلبت ذلك من سائق القطار قبله، تنازعنا ثانية في محطة الهاليسش تور، وضعت يوفيتا يدها فوق فمي، بينما يعدو الشاب -الذي كان ألمانيا أيضاً في الحقيقة، فقد ولد في برلين- إلى مفتشي المحطة ليشتكيني، هتفت بي: “لا تقل شيئًا!”.

وعندما اقترب منا رجال أمن المحطة، قالت بسرعة، دونما قصد، ودونما تحرز “اسمع، دعني أنا أتحدث، أنا شقراء وسيصدقونني”.

ربما العزاء الوحيد هو أنني عندما كنت أطير من برلين مرة، سألتني مضيفة المطار أفريقية الأصل باستهانة شيئاً بالألمانية، قلت لها بالإنجليزية: “عذراً أنا لا أتكلم الألمانية”.

قالت لي: “أتتحدث الإسبانية إذن؟!”.

نظرت إلى أعلى وقلت ضجراً من الأوروبيين الذين يظنونني إسبانياً أو إيطالياً أو يونانياً، “ليس ثانية!”.

ضحكت المضيفة الطيبة، وتسلّمت مني حقائبي.



لا تنسى تقييم الموضوع

القسم : غرائب وطرائف

المصدر : ßÓÑÉ

قد يعجبك أيضاً

اضف تعليق

فكرة الموقع : "كله لك" هو شراكة بيننا و بينكم ..دورنا : انتقاء أفضل الموضوعات المنشورة و المتداولة علي المواقع ... دوركم : تقييم المحتوي للتأكيد علي أهميته أو إرشادنا لحذفه

لمعرفة المزيد عن الموقع اضغط هنا