المحتوى الرئيسى

أحمد يحيى مهندس مصري يُعيد الشباب لسياحة الآثار بـ فلسفة المعمار

"عبق التاريخ".. تلك العبارة التي استهلكها كل من تحدث عن الآثار، اكتشفت معناها الحرفي واستنشقت هذا "العبق" بالفعل في الوقت الذي تأملت فيه جدران مسجد عمره يتجاوز الست قرون ونصف القرن، ذلك لأنني كنت استمع في الوقت ذاته لشرح من نوع فريد من شخص جمع بين دراسة الهندسة المعمارية وعشق ودراسة التاريخ، وهو المهندس المصري أحمد يحيى.

يبلغ من العمر 40 عامًا، لكنك ستقدّر عمره بأقل من ذلك عندما تلاحظ كم الحماس والحب الذي ينبض به حديثة عن الآثار وتاريخها بل ونظريات المعمار المختلفة، استجبت لدعوة أحد الأصدقاء على "فيسبوك" لحضور فاعليات أحد الجولات السياحية التي ينظمها أحمد يحيى مجانًا للشباب وغيرهم من مختلف المراحل العمرية.

يقول أحمد إنه تخرج في كلية الهندسة جامعة القاهرة، إلا أنه لم يعمل بالهندسة واتجه إلى مجالات أخرى كالتسويق وتكنولوجيا المعلومات، واحتفظ بعشقه لتاريخ العمارة حتى عرض عليه بعض الأصدقاء في عام 2007 أن يصطحبهم في جولة لمشاهدة معالم العمارة الإسلامية باعتباره مهندسًا معماريًا، وتفاجأ بسعادة أصدقائه بشرحه وبالجولة بصفة عامة، ومن هنا بدأ في التطوع بتنظيم مثل هذه الجولات وبدأ عدد المشاركين فيها في التضاعف، فبعد أن بدأ نحو 7 أشخاص أصبح عدد الحضور يصل أحيانًا إلى 150 فرد.

ما يميز المهندس أحمد يحيى عن غيره ممن يقومون بمهمة الإرشاد هو دراسته للهندسة المعمارية وحصوله على ماجستير "إدارة التراث الحضاري" من الجامعة الفرنسية؛ لذلك فإن جولاته تطورت بشرح يجمع بين المعلومات التاريخية والمعلومات المعمارية لينتج من هذا المزيج "الفلسفة المعمارية" التي أضافت بعدًا ثالثُا وطابعًا خاصًا لذلك النوع من الجولات.

أوضح أحمد يحيى أن المرشد السياحي التقليدي يهتم بسرد معلومات تاريخيه مقرونة ببعض القصص وهو أمر يراه لا بأس به، لكن باعتباره دارس للعمارة من مختلف جوانبها استطاع إضافة زاوية "فلسفة المعمار" والتي تدعو المتأمل إلى التفكير فيما وراء ما يراه، بمعنى البحث عن القناعات الفكرية والأهداف التي لدى المعماري من إنشاء تصميم ما أو ابتكار تفصيلة معمارية معينة.

 

كنت في مجموعة تجاوزت 70 فردًا اصطحبهم يحيى في جولة رائعة في شارع "الصليبة" الكائن بميدان القلعة، ويعتبر جزءًا هامًا من القاهرة الإسلامية، إذ يحتوي على عدد كبير من آثار تلك الحقبة الزمنية ويقع مسجد السلطان حسن عند أحد أطرافه وعند الطرف الآخر يقع مسجد أحمد ابن طولون، وبدأنا جولتنا من أمام مسجد السلطان حسن، وبعيدًا عن المعلومات التي تمتلئ بها كتب التاريخ، لفت أحمد يحيى نظرنا إلى أن جدران مسجد الرفاعي الذي يقع في مواجهة مسجد السلطان حسن تبدو أقدم من جدران مسجد السلطان حسن على الرغم من أن الأخير أقدم من مسجد الرفاعي بأكثر من خمسمائة عام.

 

السبب في ذلك هو أن السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون عندما قرر إنشاء هذا المسجد بالغ في الإنفاق على بناء المسجد حتى حدثت مجاعة بالقاهرة وقتها، الشاهد في الأمر أن من بين ما بالغ فيه بناة المسجد هو اختيار جودة الأحجار التي شيدوا بها المسجد، فعمدوا إلى اختيار أحجار من الجهة الشرقية للمحجر لبناء الجهة الشرقية للمسجد وأحجار من الجهة الغربية للمحجر لبناء الجهة الغربية من المسجد، وذلك لأنهم اكتشفوا أن الحجر يتكيف مع طبيعة الشمس وشدة الحرارة التي يتعرض لها، لذلك احتفظت الأحجار التي شيد بها مسجد السلطان حسن بمظهرها وتماسكها أكثر من أحجار مسجد الرفاعي الذي لم يراعي بناؤوه هذا البعد.

دخلنا مسجد السلطان حسن ليبدأ أحمد يحيى في شرح كيف نجح المهندسين في تصميم نظام طبيعي لتكييف الهواء في ذلك العصر الذي لم يشهد اختراع التكييف الذي نعرفه في يومنا هذا، بفضل سمك جدران المسجد التي يتراوح سمكها ما بين متر إلى متر ونصف، ما يساعد على تأخير نقل تأثير حرارة الهواء خارج المسجد، لتستغرق نحو 8 ساعات كي ينتقل تأثيرها إلى داخل المسجد، هذا بالإضافة إلى تصميم ما يسمى بملاقف الهواء التي تسهم في تجديد الهواء والتخفيف من الرطوبة داخل المسجد.

خرجنا من مسجد السلطان حسن لمواصلة جولتنا في شارع الصليبة، توقفنا خلال عدد محدود من الآثار الإسلامية الكثيرة بالشارع منها سبيل وكُتّاب قايتباي ومسجد شيخو أو شيخون الذي ما إن رآنا خادمة ندخل المسجد بهذا العدد الكبير بادرنا بقوله "وزارة الآثار مانعة هذه الزيارات" ولكن لحسن حظنا أن المؤذن نادى لصلاة الظهر فأدينا الصلاة وبعدها قَبِل أن نقضي بضع دقائق يشرح لنا فيها يحيى ملاحظاته الدقيقة عن الأثر، ثم مررنا بسبيل أم عباس ورأينا كيف يمزج بين العمارة العثمانية وما أدخل عليها من عمارة أوروبية، لنصل بعده إلى نهاية شارع الصليبة بوصولنا إلى مسجد أحمد ابن طولون الذي أخبرنا أحمد إنه ثاني أقدم مسجد بمصر بعد مسجد عمرو بن العاص، وأكبر مسجد من حيث المساحة إذ تبلغ مساحته نحو 6 أفدنة ونصف.

طبّق أحمد استراتيجيته في الإشارة إلى فلسفة المعمار في مسجد أحمد ابن طولون أكثر من أي أثر آخر مررنا به، وذلك حيث أشار لنا بأن مهندسو هذا المسجد عمدوا إلى محاكاة قوانين الطبيعة وهي وجود أشكال مختلفة من المخلوق الواحد، فكما أن الناس يختلفون فيما بينهم من حيث ملامح الوجه مثلا رغم أن جميعهم يطلق عليه إنسان، اختلفت زخارف نوافذ مسجد أحمد ابن طولون على الرغم من اشتراكها في أنها ذات مساحة واحدة وحدود خارجية واحدة، كما لاحظنا نفس الفكرة في وحدات لزخارف أعلى سور سطح المسجد إذ تختلف الزخارف داخل وحدات متشابهة مع بعضها في الحدود الخارجية.

ونوّه إلى فلسفة المعمار مرة أخرى عندما أشار إلينا بالقبة التي تتوسط ساحة المسجد وقال إن المهندسين اعتادوا أن تشيد القبب على قاعدة مربعة الشكل لتساوي عدد أنهار الجنة الأربعة، وصمموا فوق القاعدة المربعة شكل ثماني الأضلاع للإشارة إلى حملة عرش الرحمن الثمانية، ثم تكون القبة التي تضيق مساحته كلما اتجهنا إلى قمتها حتى تنتهي إلى نقطة واحدة تشير إلى السماء كأنها تشير إلى وجود الله الواحد الأحد.

اختتمنا زيارتنا بدخول متحف جاير آندرسون الملاصق لسور مسجد أحمد ابن طولون، وهو في الأساس بيت الكريتلية العربي القديم الذي حوله جاير آندرسون، وهو أحد ضباط الجيش الإنجليزي، حوله إلى متحف جمع فيه مقتنيات من مختلف الحقب التاريخية.

التقيت في نهاية اليوم بأحمد، مهندس هذه الجولة الرائعة، تحدث إليّ في هذا اللقاء عن أن الشباب المصري بالفعل شغوف بالتعرف على تاريخ بلاده وأن اهتمامه بسياحة الآثار لايقل أبدًا عن اهتمامه بأنواع السياحة الأخرى إلا أنهم، وللأسف، ينتظرون من يأخذ بأيديهم ويجذبهم نحو هذه الكنوز، كما أن طريقة عرض المعلومات التاريخية بشكل تقليدي قد تنفرهم من الاقتراب من هذه الأماكن؛ لذلك حرص في تجربته على تشجيعهم على مشاركته جولاته المجانية التي اتسمت بطريقة مختلفة لعرض المعلومات، رأيتها أنا شخصيًا جذابه ومناسبة للشباب خلال الجولة.



لا تنسى تقييم الموضوع

القسم : منوعات

المصدر :

قد يعجبك أيضاً

اضف تعليق

فكرة الموقع : "كله لك" هو شراكة بيننا و بينكم ..دورنا : انتقاء أفضل الموضوعات المنشورة و المتداولة علي المواقع ... دوركم : تقييم المحتوي للتأكيد علي أهميته أو إرشادنا لحذفه

لمعرفة المزيد عن الموقع اضغط هنا