المحتوى الرئيسى

مورجانا الرجل الذي غيّر حياة النساء في الهند

وُلد «مورجانا Arunachalam Muruganantham» في عام 1962 لأسرة هندية فقيرة، وبعد موت والده عملت والدته عاملةً زراعية لتوفر له مصروفات دراسته، ولكنه اضُطر في النهاية أن يترك المدرسة في الرابعة عشرة من عمره. تنقل مورجانا بعدها بين أكثر من عمل، إذ حاول بيع بعض المأكولات في سوق قريته وعمل فترةً عاملًا زراعيًا وعمل أيضًا في إصلاح بعض الآلات. كل هذا من أجل توفير بضعة روبيات قليلة توفر له ولأمه القوت الضروري.

تزوج مورجانا في عام 1998، وفي الأيام الأولى لزواجه لاحظ مورجانا أن زوجته تحاول أن تُخبئ شيئًا بعد أن رآها تمسكه بين يديها. لقد صُدم عندما اكتشف أن هذه الخرقة المتسخة التي تحاول أن تخبئها زوجته، ما هي إلا وسيلة تستعين بها على تدبر شؤونها أثناء الأيام شديدة الخصوصية التي تمر بالنساء كل شهر. كانت صدمة مورجانا شديدة وخاصة أنه ما كان ليستخدم هذه الخرقة لينظف بها دراجته، فكيف الحال وزوجته تستخدمها في هذا الأمر الذي يتعلق بصحتها وعافيتها.

سأل مورجانا زوجته إذا كانت تعرف أن هناك فوطًا صحية تُستخدم لهذا الأمر، فكان ردها أنها تعرفها، ولكنها وأخواتها في بيت والدها لم يَكُنّ يستخدمنَها، إذ كانت ميزانية هذه الفوط ستخصم من ميزانية الطعام والشراب للأسرة.

وجد مورجانا أمامه فرصة سانحة ليثير إعجاب زوجته، فسافر للمدينة ليشتري لها فوطًا صحية. عندما طلبها من البائع وقبل أن يعطيها له أخذ البائع يتلفت عن يمينه وشماله، وأخرج ورقة من جريدة قديمة ليلف بها عبوة الفوط الصحية، وأعطاها له بسرعة وكأنه يبيع له شيئًا ممنوعًا.

كان مورجانا حينها في التاسعة والعشرين من عمره، وكانت هذه أول مرة يرى فيها هذه الفوط الصحية ويمسكها بين يديه. تساءل: كم يا ترى عدد الرجال الذين أمسكوا بين أيديهم فوطًا صحية من قبل؟! أخرج واحدة من العلبة وأخذ يتأملها، وتعجب كيف لعشرة جرامات من القطن لا يتعدى ثمنهم بضعة قروش أن تباع بأكثر من أربعين ضعفًا.

بالرغم من فقره وخروجه من المدرسة في سن مبكرة، لم يكن مورجانا يفوّت من أمامه شيئًا جديدًا إلا بعد أن يحاول أن يعرف عنه كل شيء، ويحاول أن يضيف إليه شيئًا ولو صغيرًا لم يسبقه إليه أحد من قبل. قرر مورجانا على الفور أنه يستطيع عمل فوط صحية أرخص بكثير. استخدم مورجانا قليلًا من القطن لصناعة فوطة صحية بدائية من أجل زوجته. بعد أن انتهى منها لفها في ورق ملون ووضعها في علبة من علب الهدايا. قدمها لزوجته، وطلب منها أن تقوم بتجربتها، وتخبره بتقييمها لهذه التجربة. لم يشعر مورجانا أن زوجته متحمسة لهذه الفوطة التي صنعها، وتحججت أنها لن تستطيع تجربتها الآن وعليها الانتظار للشهر القادم.

انتبه مورجانا أنه لن يستطيع أن يعتمد على زوجته وحدها، لأنه عندها سينتظر شهرًا بين كل تجربة والتي تليها، وقد يستغرق الأمر سنوات ليصل لفوطة صحية مناسبة، وأيقن أنه في حاجة لمتطوعات.

اكتشف أن هناك نساء معدودات في محيط معارفه يستخدمن الفوط الصحية، حتى إنه قدّر النسبة بسيدة واحدة من كل عشر نساء، وهو ما أكدته دراسة أُجريت لاحقًا بواسطة الحكومة الهندية، إذ توصلت إلى أنه حوالي 12% من النساء في الهند يستخدمن الفوط الصحية.

كلما أخذ مورجانا في دراسة الموضوع أكثر وأكثر، اكتشف أشياء جديدة لم يكن يتوقعها؛ فقد صُدم عندما توصل إلى أنه بالإضافة لقطع القماش تستخدم النساء الرمال، والتراب، ونشارة الخشب، وأوراق الأشجار وحتى الرماد يستخدمنَه لتدبر شؤونهن في هذا الأمر الخاص. حتى النساء اللاتي يستخدمن قطع القماش يخجلن من تجفيفهن وتعقيمهن في الشمس، ما يعني أنها مُلوثة بشكل دائم وتسكنها الميكروبات والبكتريا. ليس غريبًا إذًا عندما نعلم أن حوالي 70% من أمراض الجهاز التناسلي لدى النساء ناتج عن هذه الممارسات غير الصحية.

كان الوصول لمتطوعات أمرًا حاسمًا لاختبار ابتكاره. حاول إقناع أخواته ولكنهن رفضن بشدة. جاءته فكرة التعاون مع طالبات من كلية الطب المحلية في مدينته، ولكن كيف لعامل متواضع مثله أن يتمكن من إقناع طالبات يدرسن الطب الذي له مكانة مرموقة جدًا في الهند. بعد عناء شديد استطاع مورجانا إقناع عشرين طالبة حتى يُجرّبن الفوط الصحية التي صنعها، ويُسجّلن انطباعاتهن وملاحظاتهن، ولكن الأمر وصل معهن بعد فترة لطريق مسدود، وخاصة مع تهربهن المستمر من لقائه.

أول رجل يستخدم «الفوط الصحية»!

بعدها قرر مورجانا أن يختبر هذه الفوط الصحية بنفسه، وعلق على هذا الأمر قائلًا: «كما أن التاريخ سجل أول رجل تطأ أقدامه سطح القمر، وأول من تسلق قمة إيفريست، فإنه أول رجل استخدم فوطة صحية على الأرض».

استخدم مورجانا كرة قدم بعد تفريغها من الهواء وعمل ثقبين صغيرين بها. ملأها بدماء حصل عليها من جزار القرية وأضاف إليها مادة حصل عليها من صديق يعمل في أحد بنوك الدم حتى لا تتخثر الدماء بسرعة. الشيء الوحيد الذي لم يستطع التخلص منه هو الرائحة السيئة.

حمل مورجانا هذه القِربة المملوءة بالدماء، وأخرج منها خرطومًا وأدخله في ملابسه ليستطيع اختبار الفوطة الصحية التي صنعها، وقدرتها على الامتصاص في كافة الظروف. تحرك بالقِربة ماشيًا، راكضًا، وعلى دراجته. في مختلف الأحوال كان يضغط على القِربة ليختبر كيف ستستجيب الفوطة الصحية التي يستخدمها.

يُعلق مورجانا على هذه المرحلة بأنها كانت من أصعب مراحل رحلته الشاقة. الأيام القليلة التي استغرقتها تجربته بما عاناه فيها من فوضى وبلل لملابسه، جعلته ينحني احترامًا لأي امرأة على هذه التجربة التي تمر بها شهريًا في صمت.

كان مورجانا يقوم بتنظيف ملابسه من الدماء بالقرب من بئر مياه عام في قريته، وقد اعتقد أهل قريته أنه مصاب بأحد الأمراض الخطرة، وتجنب الناس الاقتراب منه وحتى أقرب أصدقائه. تركته زوجته بعدما ضاقت به، وهي التي من أجلها خاض هذه الرحلة الصعبة. بعد فترة قصيرة من رحيل زوجته رحلت أمه هي الأخرى بعدما ضاقت به وبتجاربه التي أصبح البيت بسببها مكانًا قذرًا وغير مناسب للعيش، وكان عليه بعدها أن يتدبر شؤون البيت والطعام بنفسه.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد اعتقد أهل القرية أنه لابد وأن يكون مجنونًا، أو أصابته الشياطين، حتى إنهم عزموا أن يمسكوا به ويقودوه لأحد الدجالين المحليين ليعالجه، ولم ينقذه منهم إلا أنه وافق على الرحيل عن القرية.

مواجهة الجهل بسلاح الفوط الصحية!

لم تعد المعركة بالنسبة لمورجانا مجرد الوصول لفوطة صحية رخيصة تُستبدَل بالخرق البالية التي تستخدمها النساء في الهند. لكنها أصبحت أيضًا معركة استبدال أفكار جديدة وصحية بالجهل والأفكار البالية، من خلال تعرية الأفكار البالية للمجتمع ومواجهته بها. بالرغم من التجارب الكثيرة التي أخضع لها الفوطة الصحية، فما زالت كفاءتها أقل من الموجودة في الأسواق والتي تصنعها الشركات الكبرى، بالرغم من أنه يستخدم لصناعتها نوعية جيدة من القطن.

بالرغم من أنّ الأمر الذي فكر فيه مورجانا أشبه بطرْق أبواب شركة كوكاكولا لسؤالها عن الطريقة التي تصنع بها مشروبها الشهير، فقد قرر أنه ليس أمامه سوى مراسلة الشركات الكبرى للاستفسار منها عن المواد الخام التي تستخدمها في صناعة الفوط الصحية التي تنتجها.

كانت اللغة الإنجليزية الضعيفة لمورجانا تقف حائلًا بينه وبين التواصل مع الشركات الكبرى، بالإضافة إلى أنه أنفق الروبيات القليلة التي كان يدخرها. بعد معاناة تمكن مورجانا بمساعدة أحد أساتذة الجامعة من التواصل مع إحدى هذه الشركات. جاءه الرد على البريد بعد أسابيع بأن السر الذي يبحث عنه يتمثل في عجينة السليولوز المستخرج من أشجار الصنوبر.

السليولوز هو مركب عضوي، وهو مُكون رئيس لجدران الخلايا لأنواع عديدة من النباتات، وهو يمثل حوالي 90% من ألياف القطن ومن 40-50% من الأخشاب. تختلف خصائص السليولوز واستخداماته باختلاف طول السلسلة التي يتشكل منها، وبالتالي فالسليولوز الموجود في لب الأشجار له خصائص واستخدامات مختلفة عن السليولوز الموجود في ألياف القطن. يدخل السليولوز في صناعات متنوعة، ومنها صناعات الورق، والنسيج، والصناعات الدوائية.

تطلب الأمر أكثر من عامين ليصل مورجانا في النهاية لهذا السر، ولم تتوقف العقبات عند هذا الحد، فالآلة التي تُستخدم لإعداد عجينة السليولوز وتجهيزها لصناعة الفوط الصحية تُكلف آلاف الدولارات، ولابد أن يجد طريقة لتصميم وتنفيذ الآلات الخاصة به.

تطلب الأمر من مورجانا عامين آخرين ليستطيع بناء خط إنتاج الفوط الصحية الخاص به. تمر عملية الإنتاج بأربع خطوات سهلة وتستخدم أدوات غير معقدة. أولًا يتم إعداد عجينة السليولوز باستخدام آلة أشبه بالمفرمة التي تستخدم في المطبخ. يتم بعد ذلك ملء قوالب مستطيلة بعجينة السليولوز كما نضع العجين في قوالب الكعك. بعد ذلك يتم إحاطة العجينة المضغوطة بطبقة رقيقة من قماش صناعي من مادة غير نسيجية. الخطوة الأخيرة هي تعقيم الفوط باستخدام آلة تعمل بالأشعة فوق البنفسجية. عملية الإنتاج سهلة وتستخدم تقنية سهلة وغير معقدة، ويستطيع أي أحد أن يتدرب على خطواتها وإتقان العمل عليها في أقل من ساعة.

كانت النماذج الأولية لأدوات الإنتاج التي صنعها مورجانا مصنوعة في أغلبها من الخشب، وعندما عرضها على بعض الباحثين في إحدى كليات التكنولوجيا المحلية، تساءلوا كيف يمكن لهذه الأدوات البدائية أن تنافس خطوط إنتاج الشركات الكبرى.

من زرع يحصد ولو بعد حين

اشترك مورجانا بفكرته في إحدى المسابقات التي تقام على مستوى كافة مناطق الهند. دخل في منافسة مع حوالي ألف ابتكار آخر ونال عن ابتكاره جائزة الإبداع الأولى، وتسلم جائزته من الرئيس الهندي. أشاد الجميع في هذه المسابقة بهذا الشاب الذي اضُطر لترك المدرسة بعد وفاة والده، ورغم ذلك لم تقف هذه الصعاب أمام طموحه وإبداعه وتفوقه.

بعد سنوات من ترك زوجته له واتهام أهل قريته له بالجنون أصبح مورجانا وابتكاره تحت الأضواء، وأصبحت الكاميرات والصحف تسعى إليه لتسجل وترصد قصة نجاحه. استقبل مورجارنا أخيرًا مكالمة تهنئة من زوجته التي تركته، وتراجعت أمه وأهل قريته عن مواقفهم السابقة. استقبله أهل قريته بحفاوة عندما زارهم ليقدم لهم بضعة آلات لصناعة الفوط الصحية، ودرب عددًا من نساء القرية على تشغيلها.

في عام 2014 تم اختيار مورجانا بواسطة مجلة تايم الأمريكية في قائمة المائة شخص الأكثر تأثيرًا في العالم. حاز مورجانا على الشهرة، وأصبحت الثروة على بعد خطوات منه. لو طلب النصيحة من أي متخصص في إدارة الأعمال فسينصحه مباشرة بتأسيس شركة خاصة به، ليضاعف أرباحه بسرعة، فلديه الآلة الوحيدة في العالم التي تستطيع إنتاج فوط صحية رخيصة.

كان لدى مورجانا رأي آخر، فهو منذ صغره يعتقد بأن الإنسان لا يموت بسبب الفقر، ولكن المصائب كلها سببها الجهل. يؤمن مورجانا بأن الشركات الكبرى تتغذى على زبائنها مثل البعوض، وأنه يفضل أن يكون مثل الفراشة التي تستطيع أن تحصل على الرحيق من الأزهار من دون أن تدمرها. يعيش مورجانا مع عائلته في شقة متواضعة، وأصبح لديه سيارة، ويقول معلقًا على حاله الآن: لم أجمع ثروة ضخمة، ولكنني جمعت كثيرًا من السعادة.

استغرق الأمر من مورجانا حوالي عام ونصف حتى يبني أول 250 خط إنتاج للفوط الصحية. تم توزيعهم جميعًا على أفقر ولايات الهند. لقد كانت هذه الآلات بمثابة ثورة غيرت حياة آلاف النساء، بدءًا من النساء اللاتي يقمن بتشغيل هذه الماكينات، والأخريات اللاتي يقمن بتوزيع الفوط وبيعها، وتوعية النساء والفتيات الصغيرات باستخدامها. ساعدت هذه الآلات على نشر استخدام الفوط الصحية بين النساء في الهند، وساعدت في نفس الوقت على محاصرة ومطاردة أفكار عفا عليها الزمان.

انتشرت الآلات الجديدة بسرعة في قرى الهند، ما ساعد على رفع مستوى الحالة الصحية للنساء في الهند بشكلٍ كبير. ساعدت هذه الآلات على تمكين النساء والفتيات في مجتمعاتهن المحلية، ووفرت فرص عمل ودخلًا إضافيًا للنساء في قرى الهند الفقيرة.

معظم زبائن مورجانا عبارة عن جمعيات أهلية ومنظمات نسائية، ولا يقتصر الأمر على الهند فقط بل سافرت هذه الآلات لأكثر من مائة دولة حول العالم. يوجد خط إنتاج يعمل بشكل يدوي يُكلف حوالي 800 دولار، ونموذج آخر نصف أتوماتيكي يكلف أكثر. كل خط إنتاج يستطيع أن يوفر الفوط الصحية لأكثر من 3000 امرأة، ويوفر فرص عمل لعشر نساء.

جامعات ومعاهد كثيرة داخل وخارج الهند يزورها مورجانا ليحاضر طلبتها، ويعرض عليهم تجربته الرائعة، وغالبًا ما يمازح الطلبة قائلًا: «لقد كنت محظوظًا أنني لم أكمل تعليمي، فمن يدري لو كنت أكملت تعليمي، لكنت أعمل اليوم لدى أحدهم، لأنتظر راتبي بنهاية كل شهر».

في أحد مؤتمرات «تيد» ختم مورجانا حديثه الرائع للجمهور قائلًا: «لقد قسّمت الناس لثلاثة أقسام: غير متعلمين، ومتعلمين قليلًا، ومتعلمين أكثر من اللازم. شخص مثلي نال قدرًا يسيرًا من التعليم، استطاع أن يرعى حلمه ويحارب من أجله. يا أيها المتعلمون أكثر من اللازم، المجتمع يحتاج إليكم بشدة، وينتظر منكم الكثير، فما الذي ستقدمونه له؟».

المحاضرة التي ألقاها مورجانا في أحد مؤتمرات «تيد» من هنا.



لا تنسى تقييم الموضوع

القسم : منوعات

المصدر : ÓÇÓÉ ÈæÓÊ

قد يعجبك أيضاً

اضف تعليق

فكرة الموقع : "كله لك" هو شراكة بيننا و بينكم ..دورنا : انتقاء أفضل الموضوعات المنشورة و المتداولة علي المواقع ... دوركم : تقييم المحتوي للتأكيد علي أهميته أو إرشادنا لحذفه

لمعرفة المزيد عن الموقع اضغط هنا