المحتوى الرئيسى

فوق كفاية الكوفة تحت نصب الحرية الشاعر عدنان الصائغ

لا أذكر كيف وصل إلى يدي الصغيرتين ديوان «أغنيات على جسر الكوفة» للشاعر العراقي الكبير عدنان الصائغ، كان عمري 15 عاماً، في هذا العمر الذي يخدش فيه بيتُ شعرٍ واحدٍ الروح والجسد إلى آخر العمر.

وحلمت أن أراه وأسمع شعره مباشرةً دون أية وسائط، وهذا ما حصل، فكان أحلى من الشعر وأعذب من الأغنيات، ولكن رغم ذلك، عليّ القول إن عدنان الصائغ من المساهمين في خرابي ودفعي نحو هوّة الشعر وتورّطي في القصائد والجروح بقية عمري.

عدنان الصائغ، ابن الفقر والقهر، مرض أبوه وهو طفل، فاتجه نحو كل ما يمكن أن يكون «سبوبة» رزق، عمل بائع سجائر وعصاير وبطيخ! كما عمل ندّافاً وعامل بناء ولم يناهز الحلم بعد.

سألته: طفولتك المضطربة كانت ملحمة حقيقية، كيف تجدها اليوم في شعرك، وحياتك، كيف تلتفت اليوم إليها وأنت على عرشك الشعري الرفيع؟

تفتّحتْ طفولتي على عالم غرائبي فيه الكثير والمثير من الأحداث والصور والفقر والشعر والنهر والكتب والحكايا والأسى، أكثر مما تتسع له مدارك طفل وجد نفسه في بيتٍ بيع نصفه لسد ديون أبي الذي كان يعاني من مرض حاد جعله نزيلاً دائماً لمستشفيات عدّة كان آخرها مستشفى الكوفة الذي خرج منه عام 1976 محمولاً في تابوته، على أكتاف أصحاب قليلين.

دخلتُ المدرسة؛ «مدرسة ابن حيان» الابتدائية، متأخراً ببنطلون متهرئ وخيال هائمٍ في براري اليوتوبيا، سأجد ضالتي في مكتبات الكوفة، هذه الكتب أنشأتْ لي عالماً بديلاً، كان ملاذي ومهربي دائماً من مرارة تلك الأيام، ولم تزلْ، ولا أزال.

في طفولتي وصباي مارستُ أيضاً مهناً كثيرة، أكبر من عمري بكثير (ندّافاً، عامل بناء، عامل مقهى، بائع مرطبات، وبائع سجائر… إلخ

رغم أنني لم أُدخّن سيجارة واحدة طيلة حياتي، كنتُ أشتري في فترات الاسترخاء، بعض الكتب من مكتبة عباس السبّاك (وهو شاعر مات معدماً مهملاً) وأبدأُ بالتهامها، وحين أنتهي منها أعرضها في بسطة صغيرة في السوق في حيّنا الشعبي «الجديدة» نعم، تلك كانت أحب وأنفع المهن التي مارستها في صباي.

ينابيع هذه الطفولة، لاتزال حُبلى ومتدفقة بالكثير، وتتفجر في داخلي على الدوام موضوعاتٍ وصوراً شعرية متوالدة لا تنتهي، كأنها بحق منجم شعري لا ينضب، أراها اليوم كأنها شريط صامت ومضبب لطفولة ظالمة متعثرة أجبرني القدر أن تكون لي، ربما من هذه الطفولة وما تلاها، كان منطلقي الأول في الكتابة والحلم والترحال.

10947785_823236714389648_632964829_n

10944074_823236701056316_426642393_n

الصائغ والشاعر محمد مظلوم أمام قبر البياتي في دمشق. كانون الثاني 2002 مصدر الصورة: adnanalsayegh.com

يقهرني أن الفقر والقهر غالباً ما يرتبطان بالشعر! يقهرني حقاً أنهما عكازتاه حينما يشيخ.

سألت عدنان: هل نحن حقاً بحاجة للفقر والقهر لنكتب الشعر؟

الفقر يعني لي الظلم بأوسع وأوجع صوره، الفقر هو ظلم اجتماعي سياسي ثقافي اقتصادي، الفقر هم هؤلاء الذين سرقوا رغيفنا تحت مسميات عدة، وظلّوا يتنعمون وحدهم بخيراتنا؛ هم سدنة الظلم على مر التاريخ! كنتُ أراهم في طفولتي يخرجون من بيوتهم المكيّفة متورّدي الوجوه بملابس نظيفة، وحين تقاطعهم استغاثة فقير يصمّون آذانهم وأعينهم عنها ويمضون سراعاً إلى شؤونهم؛ إنهم أدعياء، لو طبّقوا النهج الإنساني الذي يدعون لما ظلَّ فقير أو جائع أبداً.

آه… لو كانتِ الأمعاءُ البشريةُ من زجاجٍ لرأينا كمْ سرقوا من رغيفنا…

ففي بلدٍ يطفو على النفط والخيرات والحضارات نسمع صرخة السيّاب مدوّية لليوم.

(ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوع)

وكأنني أُجيبه: شقّقني عطشي في بلاد المياه… أكلُّ اتساعِ السهوبِ، ولا حجرٌ أشتهيه كأرضي أكلُّ عثوقِ النخيلِ ولا تمرةٌ في صحونِ الجياع؟

ولأن الشعر نصير المظلومين، وَجَدَ الفقراء والمحرومون فيه ضالتهم وفردوسهم، وهكذا استمر هذا التزاوج، لكنه ليس شرطاً بالتأكيد، فالفقر – وحده بلا إبداع – لا يصنع شاعراً! كما والشعر الحقيقي ليس بحاجة إلى تلك العكاكيز والعلل: الفقر القهر السجن الاضطهاد المنفى وغيرها.

فكم من هذه العلل أصابت هذا الشاعر غير الموهوب أو ذاك الأديب أو الفنان، لكنها لم تفجّر فيه ولم تمنحه شيئاً، لكن السيّاب المبدع – وقد تكالبت عليه المحن كلها – غيّر تاريخ الشعرية العربية وأعطانا الكثير، وكم من شعراء عاشوا في رفاهية وغنى، وأعطونا إبداعاً خالصاً، خذ أحمد شوقي، نزار قباني، اللورد بيرون وغيرهم.

وكتب عبد الرحمن منيف أعظم ما كتب في وصف السجون وعذاباتها وهو لم يكن نزلها بالمرة، انظر إليه وهو يقول «السجن فقط ليس الجدران الأربعة، وليس الجلاد فقط أو التعذيب، إنه بالدرجة الأولى خوف الإنسان ورعبه، حتى قبل أن يدخل السجن، وهذا بالضبط ما يريده الجلاد، وما يجعل الإنسان سجيناً دائماً» وذاق بعض الكتاب السجون، لكنهم لم يقدّموا لنا شيئاً، في الكثير من قصائدي تحتشد مفردات الفقر، صرخةً مدوّيةً ضد هذا الظلم الإنساني الفاقع والفاجع.

الروائي عبد الرحمن منيف مع الصائغ في مسرح بيروت 1996 مصدر الصورة: adnanalsayegh.com

الروائي عبد الرحمن منيف مع الصائغ في مسرح بيروت 1996مصدر الصورة: adnanalsayegh.com

قال عبد الوهاب البياتي: الصائغ شاعر مبدع يواصل مسيرته عبر حرائق الشعر ويغمس كلماته بدم القلب، جبرا إبراهيم جبرا يقول إن الشعر اليوم كثير جداً، ولكن ما يستحق أن يُصغى إليه قليل جداً، وشعر عدنان الصائغ من هذا القليل، ويصف عبدالعزيز المقالح شعر عدنان الصائغ بأنه خلاصة لجوهر الشعر في النصف الثاني من القرن العشرين، في قصائده يلتقي الشجن العذب بالموسيقى الهادئة ويتعانق السؤال القصي بالسؤال الأكثر حميمية ودفئاً.

 الشاعر عبد الوهاب البياتي مع الشاعر عدنان الصائغ في غاليري الفينيق 1995 المصدر: adnanalsayegh.com

الشاعر عبد الوهاب البياتي مع الشاعر عدنان الصائغ في غاليري الفينيق 1995المصدر: adnanalsayegh.com

 

الروائي والناقد جبرا ابراهيم جبرا مع الصائغ في فندق القدس. عمان – مهرجان جرس - تموز 1994 مصدر الصورة: adnanalsayegh.com

الروائي والناقد جبرا ابراهيم جبرا مع الصائغ في فندق القدس. عمان – مهرجان جرس – تموز 1994مصدر الصورة: adnanalsayegh.com

الصائغ والشاعر د. عبد العزيز المقالح – صنعاء - 1993 مصدر الصورة: adnanalsayegh.com

الصائغ والشاعر د. عبد العزيز المقالح – صنعاء – 1993مصدر الصورة: adnanalsayegh.com

سعدي اليوسف يصف ما قرأ من الصائغ بأنه تمايز أكيد، ثمة جرعة من الحرية، أثرت في الشكل وفي طبيعة المادة الخام، أهي النجاة من الكابوس؟ ربما، لكنها استلزمت التحديق فيه طويلاً.

الشاعر سعدي يوسف مع الصائغ – في ديوان الكوفة - لندن 2001 مصدر الصورة: adnanalsayegh.com

الشاعر سعدي يوسف مع الصائغ – في ديوان الكوفة – لندن 2001مصدر الصورة: adnanalsayegh.com

ويظل وصف شيركو بيكه سي الأقرب لذائقتي إذ يصف الصائغ بقوله: أثناء قراءتي لهذا الشاعر المبدع شعرتُ وكأنني أذوق رطب البصرة وأنا فوق النخل، وأشم زهور الأهوار وأنا في المشحوف، وأغمس رأسي في عمق القرنة وأنا أحلم، ومن ثم أصعد إلى بغداد لكي أسمع دقات قلب شعره يدق فوق نصب الحرية.

فوق كفاية الكوفة… تحت نصب الحرية

ولد عدنان الصائغ في الكوفة، جمجمة الأمة، وبلد الفرّاء والكثير من مبدعي اللغة وصناع التاريخ، ماذا يعني الصائغ أنه ولد هنالك، يقول:

الكوفة؛ مدينة شعرية بامتياز، تاريخاً وحاضراً، فعلى ضفافها وامتداد رمالها نشأ المتنبي العظيم، والجواهري، وشيخ اللغة الكسائي، والنفّري؛ ذلك الصوفي والشيخ المعلم الأول لقصيدة النثر برأيي، بالإضافة إلى أبي العتاهية ودعبل الخزاعي وأبي دلامة والمتوكل الليثي، مطيع بن إياس والكميت بن زيد والهذيل بن عبد الله الأشجعي والطرماح بن حكيم ومطيع بن إياس حماد الراوية…

الصائغ أمام قبر الجواهري في مقبرة الغرباء. دمشق. كانون الثاني 2002 مصدر الصورة: adnanalsayegh.com

الصائغ أمام قبر الجواهري في مقبرة الغرباء. دمشق. كانون الثاني 2002مصدر الصورة: adnanalsayegh.com

ومرت مياه، ودارت نواعير، وهام عشاقٌ، وتوالدت مدارس، وأُنشأت مكتبات، وقامت ثورات، وحدثت انكسارات، وتوالت خيبات، وأنا أتأمل مياه نهرها الخالد «الفرات»، من فوق جسرها الوحيد آنذاك، «جسر الكوفة»، الذي ولد معي في السنة نفسها 1955.

كنتُ أسرح بطيوفي وأتعجب كيف تجمعت وتزاحمت وتصارعت فيها وعليها كل هذه الأضداد: السلف والحداثة والفقة والخمريات ومدرسة الكوفة النحوية والخط الكوفي ورسائل إخوان الصفا وخلان الوفا وفيوضات ربيع بن خيثم وعبدك الصوفي وعلوم جابر بن حيان والكندي وأنساب أبان الأحمر وأخبار ابن الكلبي وجنون بهلول وسهم حرملة وشريح القاضي وثورات القرامطة وابن الأشعث وزيد بن علي وسليمان بن صرد وغربة مسلم بن عقيل وانتفاضات التوابين وظلم عبيد الله بن زياد وانتقام المختار الثقفي وزهد سفيان الثوري ومجون والبة بن الحباب وهوس أبي الفضل الكوفي ومحنة أبي حنيفة النعمان ونخلة ميثم التمّار.

«الكوفة شطرنجٌ كونيٌّ» كما يقول أدونيس، وفي الموروث الديني و«التاريخ الكبير لابن أبي خيثمة» أنها «جمجمة العرب، وكنز الإيمان، ورمح الله في الأرض، ومادة الأمصار»

نعم؛ فتحتُ عيني هناك، على نهرٍ وديع وغاضب معاً، سالت مع مياهه سنين ودماء ودموع وشموع وحبر؛ معاً: طمي التاريخ ودم الثوّار ودمع العاشقين وأحبار الكتب وشموع النذور للخضر، وامتدت على ضفافه غابات النخيل والأعناب ونوافذ البيوت المكتنزة بالكثير من الحكايا، وضجّت رفوف مكتباتها بالأسئلة، ودارت حلقات الشعر في كل مناسباتها الوطنية والدينية والاجتماعية بما فيها الأعراس والمواليد والوفيات، ووجدتني ألتهم ما تقع عيني ويدي عليه من كتب ومخطوطات، وأتشمم بخور الشعر والأدعية «المستغيثة» في كل خلجاتها ومجالسها.

في هذه الأجواء المبهرة لصبي مثلي، تعرفتُ على أول صديق شاعر في حياتي هو علي الرماحي، الذي أعدمته السلطات فيما بعد وهو في أوج عطائه الروحي وتفجراته الشعرية نتيجة قصائده المعادية للطغيان والمنتصرة للحق، ليظل دمهُ يصرخ في داخلي ما حييت، فزادني عناداً وبحثاً وتمرداً ورفضاً.

في الكوفة نفسها بدأت بالعمودي، ثم قادتني إلى الشعر الحر ثم إلى قصيدة النثر، فهذه المدينة المتحركة الثائرة لا تقف على شكل واحد، وهنا يمكنني القول إن ذلك الشعور الذي عبّر عنه درويش في بيته الشهير «كن عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي» كنتُ أجده يتلبّسني في بداياتي متركزاً في مدينتي (كن كوفياً لتصبح شاعراً يا صاحبي) مستخلصاً ومستلخصاً من عبرٍ وقراءات وأحداث.

عدنان الصائغ الذي كتب عن الوطن ما كتب من ملاحم ودواوين، العاشق لبغداد حد الثمالة، والذي خرج منها ثم عاد، ثم خرج ثم عاد، وهكذا، سألته عن شعوره وهو يغادر تلك المدينة وشعوره حينما عاد، في كل مرة فأجاب «تلاقفتني بغداد وتلقفتها حياةً أدبية ضاجة بالكثير من المدارس الفنية والمعتركات السياسية والثقافية والصحفية والاجتماعية، بالإضافة إلى مقاهيها الشهيرة «البرلمان» و«حسن عجمي» و«الزهاوي»

فيها صدرتْ لي أول مجموعة شعرية «انتظريني تحت نصب الحرية» عام 1984، والعنوان كما ترى يشير إلى ذلك النصب العظيم «نصب الحرية» في قلب بغداد النابض، والذي أنجزه الفنان الكبير جواد سليم، متوخياً بذلك العنوان رمزاً ومدلولاً خفياً لما نفتقد، وأصدرتُ بعدها، هناك أيضاً «أغنيات على جسر الكوفة» 1986، «العصافير لا تحب الرصاص» 1986، «سماء في خوذة» 1988، «مرايا لشعرها الطويل» 1992، و«غيمة الصمغ» عام 1993، وهو عام خروجي أو قل هروبي من العراق بعد أن أثارت مسرحيتي «الذي ظل في هذيانه يقظاً» ما أثارته، لأجد نفسي وعائلتي في مواجهة خطر لا راد له.

كان خروجاً صعباً لشاعر مثلي تلبّسه الوطن حدّ التماهي.

لكن لم يكن من المنفى بدّ.

قلت له: لكنك عدت أيضاً فواجهت خوفاً وخطراً من نوع آخر، ماذا تقول عن تلك المرحلة هل علاقتك مربكة مع الوطن؟

العلاقة مع الوطن علاقة تماهي كما هي علاقة الروح بالجسد، فليست علاقة الشاعر بالوطن مربكة أبداً، إنما العلاقة مع القائمين على شؤون العباد والبلاد.

بعد سنوات من الغربة والترحال في مدن وعواصم أوربية، وقبلها في عواصم عربية، وبعد سقوط الصنم أو النظام أو الاحتلال – سمها ما شئت – جاءتني دعوة من اتحاد الأدباء للاشتراك في مهرجان المربد الشعري في البصرة، حملت حقائبي وحنيني لأرتمي في أحضان مدينة السياب والفراهيدي والنخيل وشط العرب، وأعانق أصدقائي بعد غياب طويل.

كنتُ فرحاً ومبتهجاً بالعودة والتغيير والأصدقاء وأجواء المهرجان التي كانت تشي ببعض من الأمل والحرية، مثلما كنتُ مرتبكاً وكانت روحي تلوب وهي ترى ما آل إليه الوضع الذي حلمنا بتغييره: مفخخات ومجنزرات أجنبية ودعاوى وفتاوى واقتتال على السلطة واصطفاف طائفي ومليشيات أحزابٍ وسماسرة وعمائم وتجار.

ألقيتُ في المهرجان «نصوص مشاكسة قليلاً» وسط عاصفة من التصفيق في القاعة الكبيرة، لكنني – يا لمرارة المفارقة – وجدتني أعود منسلاً في الصحراء، تحت جنح الظلام، عبر الحدود العراقية – الكويتية، إلى منفاي ثانيةً، بعد أن أغضبت تلك النصوص أحد رجال الميليشيات الدينية، فوقف أمامي بصلافة، في القاعة الكبيرة نفسها، وعلى مرأى من الجمهور نفسه، مهدداً إياي بقطع لساني.

وكأن سياسة القمع وتكميم الأفواه التي هربنا منها، عادت هي هي، وإن كانت بلباس آخر.

الشعر بين اليوم والأمس

الصائغ، الصائغ الماهر للغة العربية؛ كان لا بد لي أن أسأله عن حركة الشعر العربية ما إن كان لايزال يتابعها بالحماس نفسه؟ وما إن كان قد تغير شيء في التعاطي مع اللغة؟

نعم أتابعها، بل وأعيشها، فأنا منها ولها، رغم عيشي في الغربة لأكثر من عقدين، والذي أضاف لي الكثير بل ربما جعلني أرى المشهد الشعري بوضوح أكثر، تماماً مثلما كان يقول ديغول في السياسة «إذا أردت أن تعرف ما يحدث في وطنك، فارحلْ عنه بعيداً» ومن هذا أرى أن مجرى التيار الشعري العربي الإبداعي في جريانٍ مستمر وفي تطور وإنجاز دائمين رغم العوائق والأشنات الكثيرة التي تعلق بمساره وتحاول جاهدةً سدّ مجراه، منها ما هو سياسي – ديني – اجتماعي يصرّ على التحكم بمساره من خلال ممنوعاته ورقاباته المتعددة أو هباته اللامحدودة لتابعيه للتطبيل والتضليل وجرّ التيار لما يريده.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، هناك أشنات وطفيليات أخرى من الأدعياء وهم كثرٌ دائماً – للأسف – على مرّ الزمان وامتداد المكان، لكن ورغم هذا فأنا أؤمن أن الإبداع الحقيقي لا ولن يوقفه شيء.

أما عن اللغة الشعرية فهي تتطوّر باستمرار تبعاً لتجربة الشاعر وقراءاته وترحاله وتواصله وتجذّره وانفتاحه على العالم، وعلى الجديد دائماً.

هل لعدنان الصائغ أبطال؟ من هم؟

أبطالي، أو رموزي في الأدب – كما تقول، وأقول – هم تلك القمم الوضيئة التي أرست ممالك الإبداع والجمال الروحي والفني على مرِّ الحقب والمذاهب والمدارس والأذواق، على اتساع هذا الكوكب الورقي، ولا أعددهم لأنهم كثيرون، شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً.

سألت عدنان الشاعر الذي مثّل العراق في أنحاء العالم، كيف يرى المشهد الثقافي في العراق اليوم، وما علاقته به؟

أجاب: المشهد الشعري العراقي؛ وأنا منه وفيه وإليه، لم أخرج منه حتى وأنا في منفاي، هو مشهد فائر ثائر متغيّر باستمرار، وحابل بالجديد والمبتكر، على كافة الأصعدة.

وهو مشهدٌ له جذوره العريقة الضاربة في عمق التاريخ البشري منذ أول ملحمة شعرية في العالم «ملحمة كلكامش» وأول شاعرة معروفة في التاريخ «انخيدوانا» الأكدية، وحتى يومنا هذا، وهو يعكس ذلك الواقع المضطرب والملتهب على الدوام: حروباً تلد حروباً، والتي كنا في الغالب أحطابها، كما يعكس أيضاً ذلك الشتات الكبير الذي ألقتنا فيه أقدارنا، بعد نجاتنا من تلك الحروب سهواً.

هذه التجربة المريرة والمثيرة، بالإضافة إلى الإرث المعرفي، أسهما بشكل كبير في تنوّع المشهد الشعري العراقي وتطوّره وإثرائه على الدوام.

الشاعر المقاتل… المقاتل الشاعر

قلت له: عدنان الصائغ الشاعر، جندي في حرب إيران، صف لي المشهد؟ «خرجتُ من الحرب سهواً» هكذا عبّر هذا الشاعر الذي تعنيه، بقصيدته:

أنا خارجٌ من زمانِ الخياناتِ نحوَ البكاءِ النبيلِ على وطنٍ أخضرٍ حرثتهُ الخنازيرُ والسرفاتُ أنا داخلٌ في مدارِ القصيدةِ نصفَ طليقٍ ونصفَ مصفّدْ ولكنني… من خلال الحطامِ الذي خلّفتهُ المدافعُ أرفعُ كفي معفّرةً بالترابِ المدمّى… أمامَ عيونِ الزمانِ أعلّمهُ كيفَ نحفرُ أسماءَنا بالأظافرِ كي تتوهجَ: لا إلى أين نمضي بأعمارنا – غضةً – أيها الربُّ… بيني وبين الرصاصِ مسافةُ صدقي وهذي القصيدةُ، مبحوحةُ الصوتِ من فرطِ ما هرولتْ في الخنادقِ تصرخُ من فزعٍ وذهولْ: ـ أوقفوا قرعَ هذي الطبولْ مَنْ يمسحُ الآنَ عن قبوِ ذاكرتي صورَ الأصدقاءِ الذين مضوا في بريدِ المعارك بلا زهرةٍ أو نعاسٍ ولمْ يتركوا غيرَ عنوانِ قلبي أصدقائي الذين أضاعوا الطريقَ إلى دمعِهمْ والمنازلْ أصدقاءَ القنابلْ أنا شختُ قبلَ أواني ألمْ تبصروا رئتي سوّدتها الشعاراتُ لا التبغُ ألمْ تبصروا قامتي حدّبتها خطى العابرين إلى الأوسمةْ

على شفتي شجرٌ ذابلٌ، والفراتُ الذي مرَّ لمْ يروني، ورائي نباحُ الحروبِ العقيمةِ يطلقها الجنرالُ على لحمنا، فنراوغُ أسنانها والشظايا التي مشّطتْ شَعْرَ أطفالنا قبلَ أنْ يذهبوا للمدارسِ والوردِ. أركضُ، أركضُ، في غابةِ الموتِ، أجمعُ أحطابَ مَنْ رحلوا في خريفِ المعاركِ، مرتقباً مثل نجمٍ حزينٍ، وقد خلّفوني وحيداً هنا، لاقماً طرفَ دشداشتي وأراوغُ موتي بين القنابلِ والشهداءِ.

أنا شاعرٌ أكلتْ عمرَهُ الكلماتُ، فكيفَ أرتّبُ هذي الحروفَ وأطلقها جملةً، دونَ أنْ يزلقَ القلبُ – مرتبكاً – من لساني وينفجرُ اللغمُ، أركضُ، أركضُ، قلبي على وطني: أينَ يدفنُ أبناءَهُ؟ الأرضُ أصغرُ من دمعِ أمي، أنفضُ عن جلدِ طفلي الرصاصَ، فيجمعهُ في إناءِ الطحينِ.

هذي البلادُ على بُعْدِ قنبلةٍ من وريدكَ يا أيها الطائرُ المتغرّبُ بين القواميسِ، إنّا نقيسُ الحياةَ على حجمِ قنبلةٍ، عبرتْ صبرَنا الصعبَ، نسقطُ منها الشظايا – الزوائدَ، كي نرتديها، قميصاً من البهجةِ المستحيلةِ.

هلْ خطأٌ أنْ نحبَّ الحياةْ!؟

لقد كنت في حربين طاحنتين معاً: الرعب الداخلي، وحرب إيران وغزو الكويت، وجدت نفسي (فيهما) جندياً سريالياً (لأكثر من 12 عاماً) أفتّشُ بين القنابل والصبرِ عما تبقى من العمر والأصدقاء، كما عبرتُ عن ذلك في ديواني «غيمة الصمغ» 1993، أو أبحث عن موضع آمن، وقد أظلم الأفقُ واسود وجه الزمان، كما عبرت في ديواني «سماء في خوذة» 1988، كانت أمامنا جثث أصدقائنا الجنود منفوخة في الأرض الحرام، وخلفنا مفارز الإعدام والانضباط العسكري والجيش الشعبي ومفارز أخرى وأخرى، فأي خيار لنا أمام هكذا موتين؟ وماذا يمكن القول أمام هذا المشهد؟ ماذا أكتب؟

إن تجربة المشي بين الألغام على الأرض وسواتر الحروب التي عشتها كجندي مشاة، علمتني الكثير من طرق المشي بين حقول الألغام على الورق، وتجد انعكاسات ذلك على تجربتي الشعرية هناك، من يدري ربما هي التي أنقذتني من الزلل أو الانفجار أو الغياب الأبدي، كما ذكرتُ في حوار أجراه داوود أمين، وصدر في كتاب «مشيٌ في حقول الألغام» دار لارسا – السويد 2003.

الشاعر دوماً يظن أن حقه قد ضاع في مكان ما قبل أن يصل إليه أو بعد!

سألت الصائغ ما إن كان يرى أنه أخذ حقه، وماذا ينتظر من الآخر، وما إن كان ينتظر شيئاً من أحد، أي أحد؟

أجاب: حقي الأول والأخير ربما – كشاعر وإنسان، على هذا الكوكب، وفي الوطن – أن أمتلك حريتي وكرامتي وتعليمي وخبزي ودوائي وسلامي وقبري، ولا أظن أوطاننا العربية تستطيع أن تمنحنا هذه الحقوق الضرورية كلها أو بعضها على الأقل.

إن المنافي وقد تمنحك شيئاً من ذلك، لكنها أبداً لا تستطيع أن تعوّضك عن حرمانك من وطنك وناسك وجذورك.

لا أنتظر أو أطلب من أحد شيئاً سوى أن يقرأني ويفهمني ويحاورني كإنسان، بصفاء وحب وفهم، بعيداً عما مرسوم في ذهنه سلفاً.

لم أستطع ألّا أسأل عدنان الصائغ لماذا هو مثير للجدل إلى هذا الحد؟

أجاب: ربما لأنني فكرتُ وحاولتُ وسعيتُ وكافحتُ منذ بداياتي أن أكون خارج القطيع أو خارج الجوقة، أو ربما لأنني أحاول في القصيدة أن أغور في الأعماق السرية السحيقة للتاريخ والإنسان والروح؛ أو ربما لأنني أبحثُ وأكتبُ عن المسكوت عنه.

ماذا بعد، ماذا في القادم القريب والبعيد عدنان؟

هناك قصيدتي الطويلة «نرد النص» وهو نص مفتوح بدأت به منذ منتصف عام 1996 في بيروت، متنقلاً معه وبه إلى المنافي المتعددة، ولا أدري الآن هل سأنتهي منه أو ينتهي مني في القادم القريب أو البعيد، لكن يمكنني القول وقد قطعتُ فيه ومعه شوطاً طويلاً ولذيذاً وشاقاً، إنه يمكنني أن أموت بعده مطمئناً أنني قلت ما أردتُ قوله.

مع شاعر كعدنان الصائغ عاش ما عاش ورأى ما رأى، نستطيع أن نظل أياماً نحاوره…

في خلاصة الأمر؛ نستطيع القول إن تجربة عدنان الصائغ الحياتية والشعرية تجربة تستحق الوقوف طويلاً لتأملها والاستفادة منها، وأتمنى حقاً أن ينال ما يستحق عالمياً فهو متجاوز بكل معنى الكلمة.



لا تنسى تقييم الموضوع

القسم : غرائب وطرائف

المصدر : ßÓÑÉ

قد يعجبك أيضاً

اضف تعليق

فكرة الموقع : "كله لك" هو شراكة بيننا و بينكم ..دورنا : انتقاء أفضل الموضوعات المنشورة و المتداولة علي المواقع ... دوركم : تقييم المحتوي للتأكيد علي أهميته أو إرشادنا لحذفه

لمعرفة المزيد عن الموقع اضغط هنا