المحتوى الرئيسى

لفي بينا يا دنيا سوريا

اللفة الثانية

المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الأمم المتجدة التي أعلنت سوريا عام 2008 كثاني أكبر دولة تستضيف لاجئين بعد باكستان بواقع مليون ومائة ألف لاجئ، تعلن هذا العام أن أكثر من ثلاثة ملايين سوري قد قدموا طلبات لجوء، وأفهم أن عدد المهجرين الفعليين أكثر بكثير، كصديقي السوري الذي لم يعد يبتسم إلا مجاملة، أتذكر جمال البلد الذي فكرت جدياً في السفر والإقامة فيه، البلد الذي لم أكن أحتاج كمصرية فيزا لدخوله.

في العام 1997 ركبت الطائرة لأول مرة في حياتي متجهة إلى سوريا، رحلة أتاحتها وزارة التربية والتعليم المصرية لقياداتها الطلابية، واستضافتنا نظيرتها السورية في إطار مشروع تبادل ثقافي ما بين البلدين، شعرت أنني قد انتقلت بآلة الزمن لمصر الستينيات كما بلغوا عنها، الجمال والبساطة يسيطران، صور جمال عبد الناصر في الشوارع والبيوت والمحال إلى جانب صور حافظ الأسد، هنا يمكنك شراء قميص رجالي عالي الجودة بما يساوي 20 جنيهاً، أن تأكل «سطلاً» من سلاطة الفواكه الطازجة بليرات معدودة، ببساطة يمكنك أن تعيش جيداً على راتب موظف، وما زال باستطاعتك أيضاً أن تحصل على وظيفة حكومية محترمة بالثانوية «البكالوريا» كمرافقنا إسماعيل الأشقر الوسيم الذي أصاب زملاءنا الصبيان بحالة غيرة رافقتنا طوال الرحلة، في طريقنا من المطار للفندق، اعتذر لنا إسماعيل عن طول إشارة مرور لم نلاحظها، ضحكنا وحكينا له عن مرور القاهرة، وأكمل هو اعتذاراته متعللاً بساعة الذروة، ياللهول، ننظر حولنا، إنها القاهرة في ألطف وأهدأ لحظاتها، غير مدركين أن ستائر الباص تحمل من الخارج صورة حافظ الأسد، برمناها ليبدوا مشنوقاً على نوافذنا المفتوحة للشمس، مما أصاب جميع السائقين حولنا بهيستيريا، فبدأوا في إطلاق الكلاكسات والصياح والإشارة لنا وطبعاً لم نفهم فوراً ما هي المشكلة، كنا صغاراً حسني النية، فسررنا واندهشنا من عمق حب السوريين لرئيسهم وفككنا لفلفة الستائر لتسود العتمة في الباص.

زرنا الجسر الذي حملت عليه الجماهير عربة عبد الناصر، زرنا الضريح الضخم لباسل الأسد وزرنا مقراً حزبياً لنرقص الدبكة مع الشباب السوري، كما زرنا اللاذقية وتمشينا على المتوسط وصعدنا إلى معلولا وتمشينا بالجبال وتحسرنا على هضبة الجولان من خلف السلك الشائك، ولأول مرة أفهم معنى الأرض المحتلة، شعور جاثم على الصدر، أشار السائق إلى أبراج مراقبة تعلو الهضبة وقال إن إسرائيل تستطيع رؤية السوري في غرفة نومه من هذا الارتفاع، لست متأكدة إن كانت معلومة أو بالغة، لكني شعرت بالخزي المختبئ في كلماته وشعرت أنني مقصرة لسبب غير مفهوم.

قبل رحيلنا بيوم، سألني إسماعيل باللهجة المصرية التي حرص على استخدامها، ما رأيك في سوريا؟ هممت أن أحكي له عن العشق الذي تولد بقلبي لسوريا الجميلة لكنه أكمل، عندنا آثار كتير مش زيكوا مافيش غير الأهرام وأبو الهول، لم أفهم سر السؤال لكن ردي جاء سريعاً على غير عادتي حين أستفز: يا إسماعيل، انا لو وقفتك في مصر قدام كل تمثال أو نافورة عمرها 150 سنة، هتحتاج 6 شهور مش أسبوع.

أمام صرح الجندي المجهول، توقفنا لنلتقط صورة جماعية، كنا مجموعة كبيرة فاعتلى بعضنا منصة أسمنتية على مدخل الصرح، جاءنا من آخر الساحة جندي يسعى صائحاً بانفعال كبير: بدكون تقتلوني؟ بدكون تيتموا عيالي.

كان الرجل خائفاً أكثر منه غاضباً، ونحن مذهولون ومرتعبون من سلاحه المشهور، فهمنا منه لاحقاً أنه لا يجوز الجلوس على المصطبة التي تحمل اسم الرئيس، اعتذرنا للرجل بشدة وغادرنا متعجين من مبالغة السوريون في حبهم للرئيس وأخذنا الحديث لنكات المصريين عن حسني مبارك التي كانت وقتها منتشرة وجديدة ونسينا الجندي المرتعب بين ضحكاتنا.

في سوريا ستمر بجانبك شاحنات محملة بالفواكه وستمد يدك من عربتك لتلتقط حبتين فيحييك سائقها بدلاً من زجرك ويدعوك لأخذ بضع حبات أخرى، في سوريا ستفهم أن الطعام حقاً من متع الحياة وستقع في حب الإضاءة والمباني والطقس وستدوخك اللهجة البليغة، ستعانق في سوريا روح التاريخ وستلقي التحية على جمال الطبيعة كل صباح في شوارعها، سيمتدح السوريين سمارك ويقلدون لهجتك وسيردون على طلبك بـ تكرم سيدي، أو تكرم عيونك، وستفكر أنه تكرموا أنتم والله، حين تغادر سوريا ستشعر أنك قد غادرت وطنك ويصيبك الحنين.

تابع الجزء الأول من المقال على الرابط التالي:

لفي بينا يا دنيا

 



لا تنسى تقييم الموضوع

القسم : غرائب وطرائف

المصدر : ßÓÑÉ

قد يعجبك أيضاً

اضف تعليق

فكرة الموقع : "كله لك" هو شراكة بيننا و بينكم ..دورنا : انتقاء أفضل الموضوعات المنشورة و المتداولة علي المواقع ... دوركم : تقييم المحتوي للتأكيد علي أهميته أو إرشادنا لحذفه

لمعرفة المزيد عن الموقع اضغط هنا