المحتوى الرئيسى

فوندو سويسرا

يقال إن لكل مدينة كلمة? فباريس تنير بـ(الحب) أما روما فتشوح بيدها وبعلو صوتها بـ(الجنس). لكن جنيف لا يمكن وصفها بكلمة واحدة? فهي مدينة الكلمات المتعددة? أولها ..

1

المزج

الفوندو، مزيج من الجبن السويسرى وهو الأكلة الأكثر شعبية في جنيف.

وسط مطعم كراسيه ومناشفه تتبادل لوني الأحمر والأبيض في حب، يقف النادل الأشقر أمام وعاء مطلي بالأحمر ليبدع على مهل «فوندو نصف ونصف» وهو مزيج نصفه من جبنة الأمنتال السويسرية ونصفه الآخر غرويير السويسرية، جبنتان تحملان اسم مقاطعتي أمنتال وغريير السويسريتين حيث يتم إنتاجهما.

على نار هادئة، يقلب النادل بدقة وشغف جبن الأمنتال الحامض بمذاقه الفريد قليل الملح مع جبن غريير الحلو الكريمي، القوي واللاذع المذاق حتى يمتزجان ويذوبان في بعضهما تماماً. فيضع النادل بابتسامته السويسرية الهادئة، الخبز المكعب على منضدة الزبون وبجانبه السخان بلهبه الأزرق المشتعل، ثم يكلله فيضع أعلاه الوعاء الأحمر برفق ليستمر المزيج بالغليان أثناء تناوله وتظل الجبن ذائبة ومثيرة بفم الزبون.

1

لا تتوقف الأثارة بجنيف، فتناقضاتها ستحاصرك بالدهشة دوما. ما بين جنيف الحديثة شمالاً بمبانيها وديكوراتها المتطورة الملونة بالأحمر والأبيض وجنيف القديمة شمالاً بمبانيها الأثرية، شوارعها الرومانسية المستوحاة من القرون الوسطى بنوافير الورد وكنيسة سانت بيير القديمة التي تطل من أعلاها لترى مشهداً بانورامياً لتناقض آخر: ما بين قمم جبال الألب المكسوة بحرير أبيض ثلجي ممزوج بالسحب القطنية كقطعة واحدة لتثيرك بالتزلج فوقها كطفل يقفز في حليب ثلجي مدهش! والخضار الممتد أمامها إلى ما لا نهاية كانبساط الجنة ومن فوقه بيوت الطابق الواحد البسيطة بسطوحها الهرمية أيضاً والشجيرات الملونة بأوراق برتقالية وصفراء وحمراء داكنة كالقطيفة. وبين بحيرة جنيف التي تتوسط المدينة كزهرة زرقاء، لتغريك بنافورتها وسطحها اللامع، لتلقي بجسدك وتستمتع بحمام شمس منعش! إنها جنيف، مزيج الطبيعة التي لن تغادر نفسك كمزيج جبن يظل عالقاً بفمك بقوة.

1

السلام

1

«الفوندو طيب، ويسبب حالة مزاجية جيدة» من أشهر العبارات التسويقية لترويج الفوندو.

ذلك المزيج من جمال نهر الراين وتعانقه مع جبال الألب وما يعكسه من سلام وطمأنينة بالنفس. كان قادراً على أن يلهم زوارها بالمشاعر الإنسانية السامية ويضعهم في حالة مزاجية جيدة، لذا أصبحت جنيف ملتقى للمنظمات العالمية، تحتضن على أرضها أكثر من 200 منظمة عالمية كمنظمة الأمم المتحدة واليونسكو وغيرها من منظمات محاربة الفقر والأمراض والدفاع عن حقوق الإنسان والحريات كمنظمة اليونيسف لحقوق الطفل. وليس ذلك غريباً على مدينة ولد على أرضها كاتب وفيلسوف اتخذ من الحرية والطفل أساساً لفلسفته، مثل:

جان جاك روسو

«كل إنسان حر يعلم: أننا قد نحصل على الحرية مرة، ولكننا إن خسرناها مرة، فلن نحصل عليها ثانية أبداً»

كانت فلسفة روسو إحدى دعائم الثورة الفرنسية بتأثير آرائه الكبير على الأحداث السياسية وقتها، كما أسست أيضاً فلسفة روسو لطرق تعليم وتنشئة الطفل الحديثة بأوربا التي تتلخص في تربية الطفل على التحرر منذ الصغر فيقول روسو:

«اتبعوا مع النشء الطريق العكسية، وهي أن يشعر بأنه هو صاحب الاختيار، فلا توجد استجابة وتعلم حقيقي إلا بالشعور أن المرء حر فيما يتعلمه» ويرى روسو أن الطفل الذي ينشأ بتلك الطريقة هو الأصلح لمجتمعه. وبذلك كان من روسو ومزيج الطبيعة، «مدينة السلام». جنيفا بمزاجها الجبني الطيب التي لم يكن اختيارها للسلام بسبب جمالها فقط، بل لتميزها أيضاً بـ:

الدقة:

1

لتناول الفوندو قواعد:

* يتشارك الوعاء الأحمر مجموعة من الأسرة أو الأصدقاء.

* تُغمس شوكة طويلة باتجاه عقارب الساعة وغير لائق أن تغمس شوكتك أثناء غمس شخص آخر لشوكته.

* لو أسقط رجلٌ شوكته سهواً بوعاء الجبن، فعليه أن يدعو المجموعة لمشروبات مجانية، وإن كانت امرأة فتُقبل المجموعة.

* بعد الانتهاء، الجبن المتبقي في القاع يكون كحفرة يابسة لذيذة المذاق، تُقشر ويتشاركها الجميع كطقس لوداع العشاء.

1

الدقة بتحضير الطعام وتناوله وأناقة التقديم ليست فقط صفات ذلك الشعب. فهو منظم، ونظيف وأنيق، يفتخر بجمال طبيعة بلاده ولكنه لا يفتخر فقط بتاريخه بل بما أضافه أيضاً على مر الأعوام من فخامة المباني ودقة التخطيط العمراني المتميزة بأكبر شبكة مواصلات. لا تكف خطوط مترو الأنفاق والأتوبيسات والمترو ترولي وسيارات التاكسي من السير في الشوارع والميادين ورغم الزحام وكثرة الخطوط، إلا أن كل شيء يسير بهدوء ونظام ودقة متناهية بالمواعيد وكأنها مدينة تسير على:

عقارب الورد

أقدم وصفة للفوندو نشرت عام 1730 م بكتاب «طبخ الفوندو» بمدينة زيوخ.

الفوندو له تاريخ طويل، لكن ليس وحده. فحين تطأ قدماك جنيف تستشعر وكأنك بمصنع ساعات قديم ضخم. أينما تلتفت حولك، تجد ساعات يعود منشأها إلى عام 1600، 1700 م وإن كانت الساعة حديثة التاريخ فتعود نشأتها لعام 1850 م على أقصى تقدير!. هناك لا يتزين? النساء فقط بساعات الذهب أو الألماس، بل إن جنيف نفسها تضع حول معصمها أكبر وأجمل «ساعة وردية» في العالم، التي تدق بأكثر من 6000 وردة و تتغير تنسيقات ألوان وأشكال ورودها على مدار الفصول الأربعة. ليست الساعات وحدها هي الثروة القومية فهناك أيضاً..

1

سبيكة الذهب

1

عام 1950 م انتقل اسم فوندو ليحمله خليط الشوكولاتة الساخن ويغمس به قطع الفاكهة اللذيذة (فوندو الشوكولاتة).

الشوكولاتة صناعة كالساعات، كما أنها جارة مثيرة للجبن وتنافسه في إضفاء البهجة والمزاج الجيد لعشاقها. فهناك بلدان تمتلك الذهب الأسود كالخليج، وأخرى تتميز بزراعة أجود ذهب أبيض قطني كمصر، أما أهل سويسرا فيفتخرون بسر تصنيع أشهر ذهب بني في العالم. فتجد سبائك الشوكولاتة والجنيهات الذهبية تلمع بفتارين المتاجر والبقالات. قام بتصميمها مصنع (جولد مين) الواقع على ضفاف بحيرة جنيف، فخلط ما بين رمزي سويسرا الشهيرين وهما الشوكولاتة والبنوك السويسرية. لتعكس السبائك الذوق الرفيع والقيمة الكبيرة للشوكولاتة لدى السويسرين حتى إنهم يحتفلون بأعيادهم بالشوكولاتة مثل عيد الأرداج..

في عام 1602 م هجم جنود دوق فرنسا «شارل ايمانويل» على جنيف، تسلقوا أسوارها بواسطة سلالم عالية فقامت نساء جنيف بسكب أعداد كبيرة من الطناجر المملؤة بحساء خضروات ساخن جداً على روؤس جنود فرنسا، ليتراجع الجنود أمام ذكائهن وتتحرر مدينتهن الجميلة، منذ ذلك اليوم و يشتري الصغار والكبار شوكولاتة على شكل طنجرة بداخلها حلوى من السكر كالخضروات ويخرجون لشوارع جنيف وجبالها بيوم 11 ديسمبر من كل عام ليحتفلوا وسط الصقيع و..

1

بياض الثلج

1

الفوندو، هو طبق الألب الطيب الذي يدفىء ليالي شتائه الباردة.

( ممر حمام) هو ممر شمس البحيرة والاستمتاع بها صيفاً. أما شتاء فهو ممر الفوندو حيث يسير الجنيفيون بالعطلات فوقه مسافة قصيرة ليصلوا لأشهر مطعم فوندو شعبي في جنيف. مطعم بسيط بكابينة بيضاء وقاعة خارجية تطل على البحيرة والبط الأبيض السابح فوق سطحها بالإضافة لقاعة مغلقة بشبابيك خشبية مزدحمة بسخانات الفوندو المتراصة فوق بعضها حيث يجلس الأصدقاء والعائلات بالقرب من بعضهم بمساحة ضيقة على كراسي ألومنيوم بسيطة وسط دفايات معدنية مشتعلة. ويتشارك الجميع وعاء فوندو واحد في ألفة ودفء وكأنهم يجسدون بكل عطلة تاريخ تلك الأكلة من جديد. قديماً، كانت تجتمع عائلات جبال الألب حول منضدة المطبخ بعد يوم عمل طويل ليغمّسوا بواقي خبز البيت في الجبن الساخن برائحته الدسمة الشهية من حليب الأبقار بمزارعهم ليدفئهم في الليالي الطويلة ويكسر صقيع بياض الثلج القوي. كان الفوندو طبق جبال الألب الفرنسية الإيطالية السويسرية حتى إن اسمه مشتق من الفعل الفرنسي (يذيب) ولكن لتميز إنتاج سويسرا للأجبان وشغف شعبها الكبير بذلك الطبق، دفعهم للاحتفاظ به كجزء من موروثهم وتاريخهم الشعبي. ففي عام 1930م، أعلن اتحاد الجبن السويسري الفوندو الأكلة الرسمية كما اتخذ منه رمزاً للاتحاد السويسري لتميزه بـ..

الانصهار

1

بعد مرحلة مزج الأجبان مع التوابل وغيرها، ينصهر الخليط على النار.

تعتبر سويسر لؤلؤة أوروبا، حيث تتوسط القارة فتحدها ألمانيا شمالاً وفرنسا غرباً وإيطاليا جنوباً ورومانيا شرقاً كما تقع على أرضها ممرات جبال الألب التي تربط دول أوربا. جعل ذلك من سويسرا بلداً متعدداً، فكل مجموعة من مدنها تأثرت بأقرب بلد لحدودها حتى إن نشيدها الوطني «يا جبالنا الشامخة» يُغنى بأربع لغات. وعلى الرغم من ذلك إلا أن هناك تقبلاً للآخر وذوباناً للغات والعادات المختلفة في وحدة متناهية حيث تمثل سويسرا نقطة تلاقٍ وانصهار لثقافات البلاد الأربعة التي تفصلها الحدود الطبيعية من جبال الآلب ولكنها توحدها بشكل طبيعي أيضاً !!.

لذا اعتبر الفوندو، رمزاً لوحدة وانصهار الاتحاد السويسري، تلك البوتقة الحمراء التي تنصهر داخلها جنيف مع مدنها الخمسة والعشرين الأخرى باختلافاتها لتوحدها رائحة الجبن ونكهة الشوكولاتة، صوت العقارب ولون السلام.



لا تنسى تقييم الموضوع

القسم : طبخ

المصدر : ßÓÑÉ

قد يعجبك أيضاً

اضف تعليق

فكرة الموقع : "كله لك" هو شراكة بيننا و بينكم ..دورنا : انتقاء أفضل الموضوعات المنشورة و المتداولة علي المواقع ... دوركم : تقييم المحتوي للتأكيد علي أهميته أو إرشادنا لحذفه

لمعرفة المزيد عن الموقع اضغط هنا