المحتوى الرئيسى

الحقيقة وراء قوس المطر المسمى قوس قزح

«عندما تصطدم أفكارنا بالواقع، ما يجب أن نراجعه هو أفكارنا وليس الواقع» .. بورخيس

في «ملحمة جلجامش»، أسطورة البطولة القديمة للحضارة السومرية التي ازدهرت في بلاد ما بين النهرين «العراق حالياً» منذ 5000 عام، يلتقي جلجامش في إحدى رحلاته للبحث عن الخلود، رجلاً مسناً أنعمت عليه الآلهة بالخلود يدعى «أوتناباشتيم» والذي روى له حكايته مع الفيضان العظيم الذي حدث قبل قرون عديدة، حين ندمت الآلهة على خلق البشر لأنهم يصنعون ضوضاء هائلة تحول بينهم وبين النوم، وأجمعوا على اقتراح كبيرهم الإله «إنليل» أن يرسلوا فيضاناً عظيماً لإغراق الجميع، إلا أن إله الماء «إي» قرر تحذير «أوتناباشتيم» وأوحى له أن يبني قارباُ كبيراً يحمل على متنه بذوراً لكل الكائنات الحية، فينجو «أوتنابشتيم» ومن معه في النهاية ويرسو بهم القارب على جبل برز من الماء بعد انحسار الفيضان وتوقف الأمطار، لتنتهي القصة بقوس من الألوان يملأ صفحة السماء الصافية صنعته الإلهة «عشتار» كعلامة على وعد الآلهة بعدم إرسال فيضانات أخرى مدمرة.

1

وعلى نحو مستقل، في أسطورة أخرى كانت الضوضاء أيضاً وراء خلق قوس المطر طبقاً لعقائد شعوب الشوماش التي عاشت في أميركا الشمالية منذ آلاف السنين، وفيها أنهم خُلقوا من نبات سحري بواسطة إلهة الأرض «هوتاش» على جزيرة قريبة من ساحل كاليفورنيا تدعى حالياً «سانتا كروز»، إلا أنها حين استاءت من ضوضائهم لم تغرقهم كي تنعم بنوم هادئ، بل صنعت لهم ذلك الجسر السماوي الملون ليعبر بعضهم عليه إلى اليابسة ويرحلوا بعيداً عن الجزيرة، وأنقذت الذين سقطوا منهم في البحر من الغرق بأن حولتهم إلى دلافين.

2

تعتبر مخطوطات «فيدا» والتي يرجع تاريخها إلى أكثر من 3000 عام، هي النصوص المؤسسة للعقيدة الهندوسية، وقد أتى أقدمها المعروف باسم «ريجفيدا» على ذكر قوس المطر بوصفه قوس «إندرا» إله الحرب والطقس وملك الديفات، والذي كان يستخدمه لإرسال صواعق البرق من السماء لحماية البشر، إلا أنه حين يقوم بتجفيفه من ماء المطر بواسطة أشعة الشمس المشرقة كانت تسطع ألوانه، ومن الجدير بالذكر أن رمزية القوس -كأداة حرب- هو تفسير لكونه وعداً بالأمان في قصة «أوتناباشتيم» إذا أخذنا في الاعتبار أن اتجاهه إلى أعلى يحمل في عمقه إشارة بعدم العداء.

3

وبينما كان إرسال الصواعق هو مهمة «زيوس» كبير الآلهة أيضاً في اليونان القديمة، إلا أن قوس المطر لم يكن سوى «آيريس» رسولة الآلهة إلى عالم البشر طبقاً لإلياذة هوميورس، وقد كان قوس المطر في البداية تجسيداً لها إلا أنه تحول بعد ذلك بتطور الميثولوجيا الإغريقية إلى مجرد وسيلة لانتقال «آيريس» وعبورها كساعي البريد بين العوالم، وهو ما تكرر في أسطورة قديمة من هاواي عن عذراء قوس المطر «أنيونيو» رسولة السماء، وتتكرر تيمة عذراء أو عروس المطر عند بعض قبائل البربر في شمال أفريقيا والمغرب العربي حيث كانوا يستعينون بقائم خشبي يلبسونه رداء كالعروس في طقوس استجلاب المطر، وهو ما نجد أثره أيضاً في شعر «إبن الرومي» حين شبه قوس المطر بالأزياء الملونة للخوّد «العذراوات» الحسان:

يُطرزها قوس الغمام بأصفرٍ على أحمرٍ في أخضرٍ تحت مبيضِّ كأذيالِ خوّدٍ أقبلتْ في غلائلٍ مصبغةٍ والبعضُ أقصرُ من بعضِ

4

أما في الميثولوجيا النوردية أو الاسكندنافية فإن قوس المطر هو «بيفروست» أي الجسر الذي يربط بين «مدجارد» أي الأرض وبين «أسجارد» أي عالم الآلهة، يحميه من جهة السماء الحارس «هايمدال» حاملاً بوقه السحري الذي سينفخ فيه ليجمع الآلهة يوم «راجناروك» أي المعركة الآخيرة التي ستهلك كل شيء، وقد تكررت تيمة الجسر في أساطير أخرى حيث إن قوس المطر هو جسر السماء الطافي الذي نزل عبره الإله «أيزانامي» والإلهة «أيزاناجي» كي تبدأ قصة الخلق طبقاً للميثولوجيا اليابانية، وهو طريق الصعود لعالم الأرواح طبقاً لعقائد «الشامان» أو كهنة منغولي سيبيريا، وأيضاً هو مسار الأرواح المقدسة عند قبائل «النفاجو» في أميركا الشمالية.

5

وقد وصفت الميثولوجيا الأرمينية قوس المطر بأنه حزام «تير» إله الشمس والذي أصبح فيما بعد إله الحكمة والمعرفة، وفي أماكن مثل هنداروس ونيكاراجوا هو علامة غضب الشيطان التي تستوجب الاختباء في المنازل وتحذير الأطفال من الإشارة إليه بالأصابع، أما شعوب الكارينز في بورما لديها اعتقاد بأنه كائن شيطاني خطير يأكل الأطفال، وفي المعتقدات السلافية القديمة أن لمسه يحولك إلى كائن نصف شيطاني في خدمة إله البرق «بيرون»، وقديماً ربطه الأمازونيون بالأرواح الشريرة التي تسبب الأمراض، حتى إن هناك اسماً لمرض جلدي ترجمته الحرفية من إحدى لغات «بيرو» المحلية هو «أصابَ قوسُ المطر جلدي»، وفي الفلكلور المجري والفرنسي والصربي والألباني هناك اعتقاد أن الوقوف تحت قوس المطر يحول الذكر إلى أنثى والعكس، بينما في المعتقدات الصينية هو علامة اندماج الذكر بالأنثى في تكامل يماثل فلسفة «الين واليانج» الطاوية وهو ما نجد أثره في حكاية العاشقين السماويين «هيسنبو» و«ينجتاي» اللذين لم تمهلهما حياتهما على الأرض فاجتمعا بعد الموت في قوس المطر، بينما يفسره البوذيون بأنه الحالة القصوى التي يمكن بلوغها قبل تحقق حالة «النيرفانا» الروحية أو الفناء في المطلق والتخلص من الوعي الفردي والرغبات الذاتية، أما سكان أستراليا الأصليون فكانوا يقدسونه باعتباره الثعبان العظيم خالق كل شيء، وقد تكررت تنويعة الثعبان العملاق الذي يخرج من الأرض لشرب المطر قديماً في بلاد مثل إيران وماليزيا بالإضافة للأميركيتين.

Double rainbow in a meadow, Silt, Colorado, U.S.

وفي النص المصري القديم «كتاب البوابات» 1650 ق.م.، والذي يتحدث عن رحلة الإله «رع» أي الشمس إلى عالم الروح أثناء الليل، والتي يعبر فيها من خلال «البوابات» أي ساعات الليل في حماية «مِيحِن» أي الثعبان الملفوف على نفسه، والذي يتجلى حوله في قوسين مشدودين أحدهما يرمز إلى الإله «ست» والآخر إلى الإله «حورس»، في إشارة جمعت ما بين ظاهرة قوس المطر المزدوج وارتباطه بالشمس وبين فكرة الأفعى أو الثعبان السماوي العملاق المرتبطة بقوس المطر نهاراً وشكل مجرة درب التبانة في السماء ليلاً وبين تيمة القوس كسلاح للحماية، وفي الهيروغليفية نجد أن كلمة «الشمس المشرقة» عبارة عن نقش لقوس مزدوج يحمل ثلاثة ألوان هي الأزرق والأخضر والأحمر، كعادة المصرية القديمة في استخدامها العميق للدلالات حتى على مستوى المفردات اللغوية بصورة تكاد تكون أدبية أو فلسفية أو حتى صوفية، ثم توظيفها لذلك بصرياً.

7

ومن الكتاب المقدس، تحت عنوان «عهد الله مع نوح»: «وَقَالَ اللهُ: هذِهِ عَلَامَةُ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَنَا وَاضِعُهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وبَيْنَ كُلِّ ذَوَاتِ الْأَنْفُسِ الْحَيَّةِ الَّتِي مَعَكُمْ إِلَى أَجْيَالِ الدَّهْرِ: وَضَعْتُ قَوْسِي فِي السَّحَابِ فَتَكُونُ عَلَامَةَ مِيثَاقٍ بَيْنِي وَبَيْنَ الْأَرْضِ، فَيَكُونُ مَتَى أَنْشُرْ سَحَابَاً عَلَى الْأَرْضِ، وَتَظْهَر الْقَوْسُ فِي السَّحَابِ، أَنَّي أَّذْكُرُ مِيثَاقِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي كُلِّ جَسَدٍ. فَلَا تَكُونُ أَيْضَاً الْمِيَاهُ طُوفَاناً لِتُهْلِكَ كُلَّ ذِي جَسَدٍ.” – (تكوين 9 : 12-15)، وقد تمت الإشارة إلى قوس المطر في مواضع أخرى بلفظة «عَمُوِد سَحَابٍ» كما في (خروج 13 : 21)، وبلفظة «الْقَوْسِ الَّتِي فِي الْسَّحَابِ» كما في (حزقيال 1 : 28)، وبلفظة «قَوْس قُزح» كما في (رؤيا 4 : 3 ،رؤيا 10 : 1).

8

وقد ورد في الأثر عن ابنِ عباسٍ قال: «وأما قَوسُ قُزحَ فَأَمَانٌ مِنَ الغَرَقِ بَعْدَ قَومِ نُوحٍ عَلَيه السَلَام» وهي رواية البخاري بإسناد ضعيف، وفي أحاديث أخرى مما أُختلف في صحته مرفوعة لابن عباس وعلي بن أبي طالب تدور في فلك: أنه لا يجوز أن يُقال «قوس قُزح» لأن قُزح شيطان وإنما الأصح أن يُقال «قوس الله»، لكن الثابت هو كراهة كثير من أهل العلم نسبته إلى قُزَح كما ورد في الأذكار للنووي وزاد الميعاد لابن القيم، وقد اختُلِف في معنى «قُزح» في لسان العرب، فقيل: من القَزح وهو الارتفاع، وقيل: هو جمع قَزحة وهي الشكل الذي تبدو به ألوان القوس، وقيل: اسم الملَك الموكل بالسحاب، وقيل: اسم شيطان أو إله كان يُعبد في جزيرة العرب، لكن الثابت أيضاً أن مشعر مزدلفة كان جبلاً يسمى «قُزح» كما جاء في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن علي بن أبي طالب قال: «فلما أصبح _ يعني النبي _ ووقف على قُزَح فقال: هذا قُزَح وهو الموقف..».

9

وفي العلم الحديث، كانت البداية عند اكتشاف العالم الشهير «إسحق نيوتن» لما يعرف بخطوط الطيف، والتي تنتج من تحلل الضوء الأبيض لأطيافه السبعة عند مروره فيما يعرف بالمنشور أو الموشور الزجاجي، مما أسس لتفسير الظاهرة الطبيعية المعروفة بقوس المطر بأنه وهم بصري ينتج عن انكسار وتحلل ضوء الشمس داخل قطرات المطر أو قطرات بخار الماء العالقة في الهواء بعد توقف الأمطار، ثم انعكاس كل طيف طبقاً لزاوية انكساره لتظهر الألوان بترتيبها من الأحمر فالبرتقالي فالأصفر فالأخضر فالأزرق فالنيلي انتهاء بالبنفسجي، وهو ما يمثل مدى الطيف المنظور بالنسبة لحاسة البصر عند البشر، فنحن لا نستطيع رؤية الأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية أو غيرها من الأطياف مثل الآشعة السينية، وكونه وهم بصري فذلك يعني أنه شيء غير ملموس كالسراب ولا تمكن رؤيته إلا من مكان بعيد نسبياً، ويستحيل الوصول إلى نقطة التقائه بالأرض حيث الكنز أو قِدر العملات الذهبية طبقاً للاعتقاد الأيرلندي الشائع.

10

أما عن الحقيقة وراء قوس المطر المعروف بقوس قزح، غير كونه بصرياً من أروع الظواهر الطبيعية التي يمكن للإنسان مشاهدتها والتفاعل معها بصورة إبداعية أو التأثر بها فنياً، فهي حقيقة بسيطة جداً: أنه جميل.

11

 



لا تنسى تقييم الموضوع

القسم : غرائب وطرائف

المصدر : ßÓÑÉ

قد يعجبك أيضاً

اضف تعليق

فكرة الموقع : "كله لك" هو شراكة بيننا و بينكم ..دورنا : انتقاء أفضل الموضوعات المنشورة و المتداولة علي المواقع ... دوركم : تقييم المحتوي للتأكيد علي أهميته أو إرشادنا لحذفه

لمعرفة المزيد عن الموقع اضغط هنا